اخترنا لكالأكاديميةرسائل خاصةملفات سريةنور ونار

أشهر عمليات «الصقور المصرية» في سنوات الضباب

لم تكن حرب السادس من أكتوبر 1973 تدور رحاها فقط على الضفة الشرقية لقناة السويس، إنما كانت تؤازرها حرب أخرى تدار من مقرات المخابرات المصرية، بشقيها العامة والحربية.

حرب لا تشارك بها مقاتلات أو مدرعات أو طائرات، إنما سلاحها الرئيسي هو المعلومات والاعتماد فيها على عوامل الدقة والمباغتة والخداع.

“حرب المعلومات” لا تقل شراسة عما كان يدور من معارك على الجبهة، ولا تقل أيضا أهمية عنها فقرار أو معلومة تحصل عليها مصر في الوقت المناسب كانت تنير الطريق للقيادة السياسية والعسكرية لتوجيه القوات والمعركة للاتجاه الصحيح.

وربما لو أخطأت – لا قدر الله – أجهزة المخابرات المصرية في المعلومة التي تحصل عليها أو في اتخاذ قرار ما، لكانت دفت المعركة قد تحولت من النصر إلى الهزيمة.

ولقد لعبت المخابرات المصرية دورا خطيرا فى اختراق ما وراء صفوف العدو، كما كان أفرادها عناصر أساسية في خطة الخداع الاستراتيجي والتمويه، ليصل العدو إلى مرحلة الاسترخاء وتصديق حالة اللاحرب، وأن مصر قد استسلمت للوضع القائم ولن تحارب

كما كان للمخابرات المصرية دورا كبيرا في إقناع العدو الصهيوني بأن تصريحات الرئيس السادات عن ساعة الحسم وأن الحرب قادمة لا محالة هي مجرد أقاويل وتهديدات لامتصاص غضب الجبهة الداخلية وتهدئة الشعب المصري خاصة الشباب المتحمس للمعركة.

«سوف يجيء يوم، نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا في موقعه، وكيف حمل كل منا أمانته وأدّى دوره، كيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأُمّة في فترة حالكة، ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور وليضيؤا الطريق حتى تستطيع أُمّتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء».

رغم مرور ما يقرب من 50 عامًا، على إطلاق الرئيس الراحل أنور السادات تلك الكلمات، أمام البرلمان المصري في ١٦ أكتوبر ١٩٧٣، فإنه لا يزال هناك الكثير من الأسرار والبطولات في حرب اكتوبر المجيدة، التي لم يتم كشف الستار عنه حتى الآن، فضلًا عن الكثير منها الذي صار مرويًا ودونته كتب التاريخ بأحرف من نور.

ومن بين تلك البطولات تأتي العمليات التي قامت بها المخابرات المصرية، بجناحيها الحربية والعامة، والتي لم تبدأ مع المعركة يوم السادس من اكتوبر عام 1973 بل كانت تمهيداً لها وبدأت قبل ذلك بسنوات عدة، بل إن لن نبالغ لو قلنا إنها بدأت بعد ساعات قليلة من نكسة يونيو عام ١٩٦٧.

لم يكن دور المخابرات المصرية، مقصورا على توفير المعلومات لتوضيح الرؤية أمام القيادة السياسية لتحديد الوقت المناسب للثأر من العدو واسترداد الأراضي المصرية المحتلة بل تجاوز الأمر ذلك ليتضمن تأمين الجبهة الداخلية والمساهمة في توفير الإمداد والتموين اللازم للمعركة داخليا وخارجيا.

كما أن المخابرات فقدت هي الأخرى خلال المعركة شهداء من رجالها وعملائها استلزمت الضرورة تواجدهم داخل مناطق عسكرية إسرائيلية أثناء حرب أكتوبر وقبلها وفي مقدمتهم يأتي الشهيد عمرو طلبة أو العريف الشهيد موشي!!

كانت بداية الاستعداد لحرب أكتوبر هي قيام أجهزة المخابرات المصرية المختلفة بدراسة أسباب الهزيمة وتحليلها وتلافي جميع السلبيات التي كانت سببا في حرمان القوات المسلحة المصرية من القتال في 1967 أو استغلها العدو لزيادة قوته العسكرية والمعنوية والمخابراتية.

الجواسيس الشرفاء

وكان من بين ما اكتشفه رجال المخابرات المصرية، أن اسرائيل حصلت على العديد من المعلومات عبر المواطنين المصريين أنفسهم، وليس من الجواسيس فقط!!

 حيث اكتشت المخابرات المصرية أن المواطنين البسطاء ليس لديهم إدارك لأهمية الأاسرار العسكرية، فتجد الجنود يتحدثون عما يرونه في وحداتهم العسكرية بدون أي حذر!!.. فضلًا عن أن المواطنين العاديين يرصدون تحركات الجيش ويتناقلونها كحواديت بدون أي خوف من رصدها من قبل العدو!!

وتأكدت المخابرات من تلك الحقيقة بعدما ألقت البض على عناصر شبكة تجسس وقالوا في التحقيقات أنهم كانوا يجمعون معلوماتهم من خلال المناقشات بين المواطنين خلال جلوسهم على المقاهي!!

وبالفعل تم وضع خطة بالمخابرات المصرية تم خلالها الاستعانة بعدد من خطباء المساجد والذين تحدثوا كثيرًا عن خطورة افشاء الاسرار وأن الكتمان من سمات المؤمنين الصالحين، وأن العدو له آذان في كل مكان.

وكالعادة استقبل الشعب المصري الرسالة بفهم وإدراك وتغيرت طباعه خاصة المجندين منهم وأصبح تسريب المعلومات محدود جدًا وبشكل طبيعي لا يمكن منعه بأية وسيلة مهما كانت!!

كما تزايد نشاط المخابرات المصرية للكشف عن شبكات التجسس الإسرائيلية في مصر وعدد من الدول ذات المصالح معها، وبالفعل نجحت في كشف عدد منها.

فضلًا عن القيام بالتواصل وزرع العملاء المصريين في قلب الكيان الصهيوني، لجمع معلومات للقيادة السياسية أو التأكد من صحة معلومة توفرت من مصادر أخرى، بالإضافة إلى تطوير النشاط المخابراتي المصري تدريبيًا وتكنولوجيًا.

تكنولوجيا التجسس الحديثة

كانت البداية بتوفير أجهزة من ألمانيا لتشفير الرسائل المتبادلة بين ضباط الحالة في مباني المخابرات المصرية وبين عملاء وجواسيس مصر في شتى انحاء العالم خاصة داخل الكيان الصهيوني، وبالفعل تم تدريب الضباط والعملاء على تلك الأجهزة المشفرة شديدة التعقيد، والتي نجحت بالفعل في تمكين المخابرات المصرية من خداع التكننولوجيا الأإسرائيلية فلم يتم رصد أية رسائل من أو إلى المخابرات المصرية قبل أو أثناء الحرب.

ولم تتوقف التطويرات التكنولوجية على توفير أجهزة المراسلات المشفرة، بل تضمنت إحضار أجهزة متطورة للكشف على الخطوط الهاتفية، ومعرفة كونها ملغمة بأجهزة تصنت أم لا، وبالفعل اكتشفت المخابرات المصرية أن الموساد الإسرائيلي قد قام بزرع أجهزة تصنت في الكوابل التليفونية الموجودة فى منطقة القناة، فتم مد شبكة كابلات هاتفية أخرى مؤمنة لاستخدامها خلال تلك الفترة، دون أن يتم الإعلان عن ذلك أو حتى ايقاف العمل بالكوابل القديمة، بل استفادوا منها فى التخطيط لعمليات الخداع الإستراتيجي فيما بعد.

ملكة الجاسوسية

مع تلك التكنولوجيا الحديثة، والنشاط المخابراتي المكثف، نجحت المخابرات المصرية في رصد عدد من الجواسيس والشبكات المرتبطة بالعدو الصهيوني، وكان أخطر من تم القبض عليهم الخائن فاروق عبدالحميد الفقي، والذي نجحت خطيبته الجاسوسة الحسناء هبة سليم، في تجنيده ليعمل معها لصالح الموساد الإسرائيلي.

كانت بداية رحلة هبة عبد الرحمن سليم عامر الشهيرة بـ «هبة سليم»، مع الجاسوسية فى 1964 بعد حصولها على ليسانس اللغة الفرنسية من جامعة عين شمس, ثم حصلت على منحة لاستكمال دراستها بجامعة “السوربون” في فرنسا، وهناك التقت بفتاة يهودية من أصول بولندية وأعطتها فكرة عن الحياة في إسرائيل وأنهم ليسوا وحوشا ولا يكرهون العرب وأنهم يريدون فقط الدفاع عن مستقبل أجيالهم.

وبعد التأكد من عشقها – غير الوطني – للكيان الصهيوني تم توجيه دعوة لها لزيارة إسرائيل، فقبلتها بالفعل، وهناك التقت بضباط من جهاز المخابرات الإسرائيلية “الموساد” الذين استقبلوها استقبالا حافلا، ثم قاموا بتدريبها بشكل مكثف على أعمال الجاسوسية وتجنيد العملاء.

وبعد الانتهاء من تدريبها تم تكليفها بجمع بعض المعلومات, من مصريين وعرب وأجانب داخل المجتمع الفرنسي لصالح الكياتن الصهيوني، فكانت النتيجة مذهلة لضباط الموساد، حيث لم تتوان هبة في استغلال جمالها في الايقاع بالرجال لاستخلاص المعلومات منهم، أُطلق عليها لقب “ملكة الجاسوسية”.

ولم تكتف بذلك بل قامت، بتجنيد خطيبها المقدم مهندس صاعقة فاروق عبدالحميد الفقي، والذي كان يشغل مناصب إداري مع أحد قادة بالجيش المصري، مما سهل له الحصول على معلومات عسكرية حساسة عن بناء قواعد (حائط) الصواريخ المصري، والتى كان السادات يعمل على بنائها لتحقيق الغطاء الجوى لقواتنا تمهيدا لدخول الحرب.

ومع المعلومات التي تسربت من الفقي لخطيبته هبة، كانت طائرات العدو الصهيوني تقوم بشن ضربات فجائية على منصات وقواعد الصواريخ المصرية.

ولم تستمر شبكة (الخطيبين الخائنين) كثيرًا، حيث رصدتها عيون المخابرات المصرية، ولكنهم لم يتعجلوا في إلقاء القبض عليها لارتباطها بشبكات تجسس متشعبة في أوروبا والوطن العربي، أملًا في إيقاع تلك الشبكات أو أكبر عدد منها في مصيدة المخابرات المصرية.

ولكن الرئيس السادات اصدر توجيهاته بضرورة القبض عليها حتى لو لم يتم القبض على غيرها وخطيبها الخائن، لتوجيه رسالة مهمة للعدو الإسرائيليـ وبالفعل نجحت المخابرات المصرية فى القبض عليها، باستدراجها إلى ليبيا، وليس تونس كما ذكر فيلم الصعود إلى الهاوية الذي جسد خيانتها وعمالتها للوطن.

وفي ليبيا تم إلقاء القبض عليها بعدما أخبرها ضابط مخابرات مصري أن والدها المقيم هناك يعاني من ازمة صحية شديدة وطارئة، وتم القبض عليها وإعادتها إلى مصر وفي نفس الوقت تم القبض على خطيبها الخائن.

وتشير بعض المصادر إلى أن عملية القبض على الجاسوسة الحسناء هبة سليم تمت بالتنسيق مع أبيها، الذي كان يعمل مدرسا في ليبيا، والذي رفض الخيانة التي سقطت فيها ابنته وتبرأ منها وساعد في القبض عليها رغم علمه بأنه سيتم اعدامها رميًا بالرصاص بعد محاكمتها، هي وخطيبها، ورفضت مصر العديد من العروض الإسرائيلية لمبادلتها بجواسيس أو أسرى مصريين في إسرائيل.

وقالت عنها رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير: “إنها قدمت لإسرائيل أكثر مما قدم لها زعماؤها، فهى لم تتخابر بسبب المال أو الظروف الاقتصادية، بل تخابرت لأنها علي قناعة بأن إسرائيل دولة قوية”، وكلفت مائير وزير الخارجية الأمريكي أن يرجو السادات تخفيف الحكم عليها, لكنها كانت قد أعدمت بالفعل!!.

عائلة من الخونة!

عندما رصدت المخابرات المصرية، نشاط هذه الشبكة، كانت صدمتهم كبيرة، فالشبكة تتكون من عائلة خائنة بالكامل!!

شبكة عائلة إبراهيم شاهين، التي ضمنت زوجته إنشراح وأولادهما نبيل ومحمد وعادل، والتي بدأت نشاطها التجسسي في مصر لحساب الموساد منذ عام 1968، وظلت طوال 7 سنوات كاملة تبث إلي “تل أبيب” المعلومات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، حتى صدرت التعليمات بالتوقف عن رصد الشبكة وإلقاء القبض على أعضائها بعدما استغلتهم المخابرات المصرية في تسريب بعض المعلومات المقصودة للعدو الإسرائيلي.

وفي 25 نوفمبر 1974 تم اسدال الستار على قضية محاكمة عائلة الخونة والحكم على الأب والأم بالإعدام شنقا أما الأولاد الثلاثة فكان مصيرهم السجن المؤبد، وقد تم تنفيذ الإعدام بالفعل في الخائن إبراهيم شاهين في ديسمبر 1977، بينما أوقف السادات تنفيذ حكم الإعدام في زوجته إنشراح، ووافق على الإفراج عنها وأولادها الثلاثة، وتسليمهم جميعا إلى “تل أبيب” في صفقة لتبادل الجواسيس، بطلب من وزير الخارجية الأمريكي وقتها هنري كيسنجر، وقام التليفزيون المصري بإنتاج قصتهم في مسلسل بعنوان “السقوط في بئر سبع”.

شهيد اسمه موشيه!

لم تكد وتيرة الحرب تهدأ على الجبهة، حتى صدرت تعليمات بضرورة تأمين وفد عسكري رفيع المستوى يضم عدد من القادة العسكريين وشخصيات مدنية لقيامهم بمهمة خاصة جدا في الضفة الشرقية للقناة!!

وبالفعل فوجيء الضباط والجنود المصريين المتواجدين بإحدى النقاط الحصينة على خط بارليف، بمجموعة من القيادات العسكرية ومعهم رجال من المخابرات (بملابس مدنية) عبروا إلي الضفة الشرقية للقناة، واتجهوا لإحدى نقاط الرصد والمراقبة الجوية الإسرائيلية وبحثوا بين الجثامين الملقاة حولهم حتى عثروا على جثمان عريف إسرائيلي في العشرينيات من عمره..

لم يكن بحث الوفد المصري عن جثمان هذا العريف الإسرائيلي هو سبب تعجب الضباط والجنود المصريين، بل كان ما فعله القادة العسكريين ورجال المخابرات المصرية، إذ قاموا بلف جثمان العريف الإسرائيلي والذي تم الكشف عن هويته وان اسمه «موشيه» أو «موشي» في علم مصر، وأدوا له التحية العسكرية وقاموا بقراءة الفاتحة ورفعوا أيديهم بالدعاء بالرحمة لصاحب الجثمان، ليس هذا فقط بل حملوا الجثمان معهم في رحلة خاصة إلى القاهرة!!

والحقيقة أن خلف هذا الشاب كانت توجد واحدة من أروع عمليات التضحيات والفداء والوطنية، حيث ضحى بحياته عن طيب خاطر من أجل وطنه الحبيب مصر رغم أنه كان يمكنه النجاة بحياته لو أراد وبدون أن تشوبه أي شبهات بالاتهام بالخيانة او حتى الضعف والجبن..

عمرو طلبة.. هذا هو اسمه الحقيقي، وليس موشيه أو موسى أو موشي (انطقها كما تشاء فكلها نطق لاسم نبي الله موسى باللهجات المصرية والعبرية المختلفة!!)، هو شاب مصري في بداية العشرينيات من عمره، زرعته المخابرات المصرية في قلب المجتمع الإسرائيلي، بل داخل الجيش الصهيوني نفسه وفي واحدة من أخطر أماكن العدو.. نقاط خط بارليف الحصينة!!

كانت المهمة المكلف بها الشهيد عمرو طلبة، هي جمع معلومات عن نقاط خط بارليف الحصينة والقوات الإسرائيلية المتواجدة به وعلي مقربة منه، وذلك لأنه أول خط دفاع للعدو الإسرائيلي سيواجه القوات بعد عبور المانع المائي قناة السويس، وبالتالي يجب دكه سريعًا من قبل الطيران المصري وخلال دقائق معدودة حتى لا تنشط وسائل الدفاع الإسرائيلية المعقدة به وتوقف عبور القوات للشاطيء الشرقي للقناة.

ورغم أن قصة عمرو طلبة تم نشرها في كتاب بعنوان «شهيد اسمه موشي» وتم تحويلها لمسلسل إذاعي بنفس الاسم، ثم تحولت لمسلسل تليفزيوني باسم «العميل 1001»، إلا أن ما تم ذكره أقل القليل من البطولة والوطنية التي قام بها الشهيد عمرو طلبة..

وباختصار يجبرنا عليه ضيق مساحة النشر، نذكر أن أحد ضباط المخابرات المصرية، قام باختيار عمرو طلبة للشبه الشديد بينه وبين مهاجر يهودي من أصل مغربي كان متواجدًا واسرته في مصر قبل أن تصاب الأسرة في حوادث متفرقة توفي الشاب نفسه على إثرها، وكن الهدف من ذلك هو زرع شاب يهودي سنه مناسب للتجنيد (أداء الخدمة العسكرية) ودعمه داخل الجيش الاسرائيلي ليؤدي مدة خدمته التجنيدية في قلب خط بارليف الحصين!!

وبالفعل سافر عمرو من مصر لإسرائيل بخطة معقدة ثم التحق فعليا بالجيش الإسرائيلي ووثق علاقته بأحد ضبا الموساد الذي رشحه للعمل على جهاز اتصال لاسلكي في إحدى نقاط خط بارليف.

وجمع عمرو المعلومات التي طلبت منه، بل وأكثر مما كلفته به المخابرات المصرية، وكانت حماسة الشاب تدفعه إلى معرفة كل شيء عن الجيش الإسرائيلي الذي سيواجهه الجيش المصري وكانت المعلومات تصل تباعاً الي المخابرات المصرية.

ووفقًا للخطة الموضوعة فقد كانت مهمة طلبة تنتهي قبل الساعة من مساء السادس من أكتوبر، وعليه أن يغادر خط بارليف بعد توجيه الطائرات المصرية وابلاغهم بأهم النقاط الحصينة التي يجب عليهم دكها في الضربة الجوية الأولى..

ومع اصدار التعليمات للطيران المصري بشن الهجوم الجوي على خط بارليف، كان من المفترض ان يترك البطل المصري عمرو طلبة مكانه في نقاط خط بارليف ويلجأ لخطة الهروب المعدة سابقًا والتي تدرب عليها، ولكن لأول مرة خالف الشاب الوطني تعليمات قادته في المخابرات المصرية، حيث كان في هذا اليوم متواجدًا داخل احد مراكز القيادة اللاسلكية على خط بارليف وبالتالي لديه رصد لكافة نقاط القوة والضعف في خط بارليف مما يعني ان التوجيه المباشر سيجعل نسبة الخطأ والخسائر في الضربة الجوية تقل عن 10 أو 5%.

وبالفعل قام عمرو بتوجيه الطائرات المصرية من خلال اللاسلكي إلي منصات الصواريخ وأجهزة الرادار ومخازن الذخيرة وعنابر الجنود، وتوالت الضربات الموجهة والصائبة من الطائرات المصرية، وأصاب العدو الجنون وصار افراد الجيش الاسرائيلي يفرون في كل اتجاه كالفئران المذعورة!!

وجاءت اللحظة الحاسمة، لقد حدد الشهيد عمرو طلبة احداثيات مركز القيادة الذي يتواجد فيه بكل دقة وابلغ به قائد سرب الطائرات المتصل به، استعدادًا لتوجيه ضربة للمركز واصابة شبكة الرادار والاتصال الاسرائيلية على خط بارليف بالشلل.

ومنح قائد السرب عمرو فرصة ليفر من موقعه قبل توجيه الضربة ولكنه خشي أن يحدث خطأ ولو واحد في الألف، فرفض العرض، وأصر على الاستمرار في موقعه ليوجه الطائرات التي ستدمر موقعه الحصين الذي يختبيء به!!

وردد عمرو الشهادتين، ومن أعماقه ترددت عبارات «الله أكبر.. سلمت أيديكم يا رجال مصر»، قبل أن يدمر الطيران المصري المقر المتواجد به، لتلحقه اصابات خطيرة، لفظ على إثرها انفاسه الأخيرة ليستشهد وهو ينظر إلي إخوانه جنود مصر يستردون أرض سيناء ويطاردون العدو في كل مكان..

ورغم بطولة عمرو وفدائيته التي ليس لها مثيل، لم يتم الكشف الكامل عن شخصيته، حتى أن هناك بعض المصادر تشكك في أن اسمه الحقيقي ليس «عمرو طلبة»، وانه ليس مجرد شاب تم اختياره من بين عدد من الشباب المصري وإنما هو احد ابناء ضباط المخابرات المصرية وأن الضابط الذي قام بترشيحه للمهمة (والمعروف باسم السيد / فؤاد) هو والده!!

عصابة الكشافات!

هي واحدة من أطرف العمليات المخابراتية، فهذه المرة لم يكن الهدف هو القبض على جاسوس أو زرع عميل في كيان العدو، بل كان المطلوب هو توفير مصادر بديلة للإضاءة أثناء أوقات تقييد الإضاءة خلال الغارات.

كان المطلوب هو البحث عن طريقة غير تقليدية ولا يمكن للعدو رصدها لتوفير تلك المصادر البديلة، وداخل غرفة اجتماعات بإحد مباني المخابرات المصرية تولد الحل، وكان عملية نوعية ليس لها مثيل!!

تواصل أحد رجال المخابرات المصرية مع مهرب مشهور متخصص في تهريب قطع غيار سيارات، وتم الاتفاق معه على تهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام، ومعها بطاريات لتشغيلها وأخرى باحجام وفئات مختلفة!!

وتم الاتفاق على ان هناك مهرب آخر سيتسلم الصفقة من الحدود المصرية لينقلها داخل البلاد ومنها لدولة ثالثة لتتلقاها عصابة أخرى، وبالتالي تكون مصر مجرد أرض وسيطة في هذه العملية!!

وبالفعل نجح المهرب في جمع الكمية المطلوبة من المصابيح (الكشافات) والبطاريات، وخلال تسليمها للمهرب المصري (ضابط المخابرات) قامت قوات حرس الحدود بالقبض على افراد العصابتين، مصادرة المضبوطات لصالح الحكومة المصرية وفقًا للقانون وبدون أي لفت للانظار، وبالفعل في وقت الحرب تم طرح تلك الكشافات (المصابيح) والبطاريات للبيع بالمجمعات الاستهلاكية.

الأمطار تغرق القمح!

«فضيحة.. الأمطار تغرق المخزون الاستراتيجي للبلاد من القمح والحكومة لا تعرف كيف تتصرف»!!

كان هذا هو ملخص الحملة الإعلامية التي تم شنها ضد الحكومة المصرية بسبب تلك المعلومات التي تسربت للإعلام المحلي والدولي عن غرق صوامح القمح بما فيها من محصول في مياه الأمطار، رغم أن الشتاء كان في بداياته، وتساءل الكل عما يمكن أن يحدث للبلاد عندما تشتد الأمطار في شهور ديسمبر 1973 ويناير 1974؟!!

ومع حالة الارتباك التي شهدتها الوزارات المعنية، لم يعد أمام مصر من حل سوى استيراد قمح بكميات كافية وبشكل سريع، لمنع حدوث مجاعة أو أزمة داخلية.

وبالفعل استوردت الحكومة المصرية مخزون استراتيجي جديد من القمح وسط حالة من الشماتة من بعض الدول والجهات في تلك الدولة التي فشلت في حماية مخزونها الاستراتيجي من أهم محصول زراعي بالبلاد وكذلك أن الكمية المشتراة تم توفيرها بقرض وستتحمل الخزانة العامة للدولة مبلغًا كبيرًا في سبيل ذلك.

ولم يكن أحد يتخيل أن ما حدث هو سيناريو محبك من إعداد وتنفيذ المخابرات التي وضعت الخطة وروجت للشائعة ووفرت التفاوض السريع حول كميات القمح المطلوبة وذلك من أجل توفير مخزون استراتيجي «إضافي» من تلك السلعة المهمة جدًا.

التيتانوس في خدمة الوطن!

بالتأكيد لا يوجد أحد يحب الأمراض ولا الميكروبات، وبالطبع ن بينها ميكروب التيتانوس شديد العدوى.. ذلك المرض المزعج الذي تم تجنيده – بدون رغبته – ليعمل لصالح مصر خلال الخداع الاستراتيجي السابق لحرب أكتوبر المجيدة!!

كانت الخطة التي وضعتها الأجهزة المعنية تستلزم توفير أماكن كافية في عدد من المستشفيات المختارة بعناية ودقة من اجل استقبال مصابي العمليات العسكرية خلال حرب أكتوبر سواء من العسكريين أو المدنيين، خطة غاية يف العبقرية.

طبيب شاب يؤدي الخدمة العسكرية بأحد المستشفيات العسكرية، ولكن قبل الحرب بوقت كاف يتم تسريح الضابط وتعينه بمستشفى الدمرداش، بمحافظة القاهرة (العاصمة).

وخلال إحدى النوباتجيات الليلية له يشتبه في إصابة أحد المرضي بعدوى بكتيرية (يشتبه في أنها تيتانوس)، فيطلب اجراء تحليل له، وسط تكذيب رسمي وتشكيك في كفاءة الطبيب وخبرته المهنية.

وبالفعل تثبت التحاليل وجود ميكروب التيتانوس في جسد المريض فيتم توسيع الأمر ليتضمن التحليل هواء المستشفى بالكامل لتكون النتيجة وجود عدوى بكتيرية بالدمرداش يستلزم اخلائها من المرضى!!

ومع تأكد الخبر الذي تسرب من البداية لوسائل الإعلام، نشرت «الأهرام» الخبر معربة عن مخاوفها من أن يكون التلوث قد وصل إلى مستشفيات أخرى، فصدر قرار بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات، لتخرج النتائج وتؤكد وجود العدوى بالفعل في عدد من المستشفيات ويجب اخلائها من المرضى فورًا وإعادة توزيعهم على مستفيات أخرى

ومع اندلاع الحرب، كانت المفاجأة التي تنتظر العدو الإسرائيلي، وهي أن المستشفيات لا يوجد بها اية عدوى بكترية – تيتانوس أو غيره – ولكن ما حدث كان ضمن خطط الخداع الاستراتيجي التي وضعتها ونفذتها الأجهزة المعنية والمختصة في مصر، خاصة وان المستشفيات التي تم اخلائها تقع في مناطق محددة سابقًا وتتناسب تمامًا مع خريطة الحرب والأحداث المتوقعة في مسارها.

خريطة النابالم

عندما استولت اسرائيل على الضفة الشرقية للقناة، سعت جاهدة لتحويل قناة السويس إلى مانع مائي ليس له مثيل في العالم كله، ليحول دون عبور الجيش المصري من الغرب للشرق.

وكان من بين الاجراءات شديدة التعقيد التي اتخذتها إسرائيل هو مد خطوط انابيب على شاطيء القناة وداخلها تنتهي بصهاريج مملوءة بالنابالم وهو مادة شديدة الاشتعال تستطيع أن تحول مياه القناة إلى جحيمَا!!

وتم تكليف المخابرات المصرية بضرورة الحصول على خرائط النابالم وليس هذا فقط بل القيام بسد فتحاتها حتى لا يتمكن الاسرائيليون من الاستفادة بها خلال الحرب.

وبعد دراسات مستفيضة، وضع رجال المخابرات المصرية خطة شديدة التعقيد وتم الاستعانة خلالها بشخصيات إسرائيلية لم يتم التصريح بهم حتى الآن.

المهم أن الخطة تتلخص ببساطة في قيام احد رجال المخابرات المصرية بالحصول على خريطة توزيع انابيب النابالم وكذلك تصنيع احدى اللدائن الخاصة يتم استخدامها في سد فتحات انابيب النابالم وتكون لديها القدرة على عدم التفاعل معه.

ونجح رجال المخابرات المصرية في هذه المهمة المستحيلة وقدموا للقيادة السياسية خريطة النابالم كاملة، كما تم ابتكار المادة المطلوبة (اللدائن)، ورغم روعة العملية وإثارتها فإنه للاسف لم يتم الكشف عن كامل تفاصيلها حتى الآن وكل المتاح عنها هي انه المخابرات المصرية نجحت في هذه المهمة بشكل كامل وتسبب ذلك في ان الاسرائيليون عندما حاولوا اطلاق شبكة النابالم الحارقة لم تستجيب للضغط المتواصل على المفتاح الخاص بها!!

اظهر المزيد

ياسر حسني

كاتب وباحث وصحفي مصري.. شارك في إنشاء وإدارة العديد من المواقع والصحف والمجلات في مصر والدول العربية.. ترقي في المناصب الصحفية حتى وصل إلى رئيس تحرير العديد من الإصدارات من بينها منصة بلاحدود وبوابة الضحى وشبكة المنصة .. فضلًا عن أنه تولى إدارة عدد من دور النشر المصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى