العدالةمساحة للاختلاف

الدكتور شوقي السيد يكتب: الانفجار التشريعى!

من يصدق أننا نستقبل فى بلادنا قانونا جديدا، كل ثلاثة أيام!! فتتكاثر بذلك عدد التشريعات وتسبب انفجارا تشريعيا، ومع ذلك تظل القضايا التى تواجهها تلك التشريعات متراكمة وباقية على حالها، وبدت قضية الانفجار التشريعى قضية مزمنة، تماماً مثل قضية الانفجار السكانى، ولم تنجح الحلول والاقتراحات فى مواجهتها، وتظل تبحث عن حل، لكنها بقيت عاجزة تُحدث آثارا وتبعات يتعذر تداركها مع الزمن، كما تحقق إرباكات سياسية واجتماعية واقتصادية فى البلاد، ونتحدث دوما عن وجود ترسانة من التشريعات، ونتحدث دوما عن تحديث التشريعات والقوانين وتنقيتها، ونعقد المؤتمرات ونجرى المناقشات، وتستدعى الأبحاث، والدراسات، وتشكل اللجان العليا للإصلاح التشريعى، كل ذلك يحدث.. ومع ذلك تظل القضية باقية مزمنة.. تثبت دعائمها كل يوم.. ولا تجد حلا!! ما معنى أن نعترف بوجود هذا الانفجار التشريعى، ونعترف أيضا بأن هذا الانفجار بسبب كثرة المشكلات.. وتفاقم البيروقراطية.. وتعاظم الفساد وبطء إجراءات التقاضى.. وتعطيل الفصل فى القضايا، وإحداث إرباكات.. وتعدد الإجراءات وتناقضها.. كل ذلك واقع، ومع ذلك يظل سيل التشريعات منهمرا بسهولة ويسر، بمعدل ميلاد قانون جديد كل ثلاثة أيام.. فتزداد القضية معها تعقيداً!!

وحتى لا يكون الحديث كلاما فى كلام.. علينا أن نتجه إلى لغة الحساب والإحصاء، إذ تطالعنا أعداد التشريعات التى صدرت فى أثناء غيبة البرلمان منذ عام 2013 وحتى عام 2015، وقد بلغت (469) تشريعاً جديدا، وفى عام 2015 وحده ، خلال عشرة شهور يناير / أكتوبر بلغ عدد ها (106) قرارات بقانون ، بمعدل عشرة قوانين كل شهر.. أى قانون كل ثلاثة أيام، وتكاد تقترب النسبة، أو تزيد قليلا فى أثناء وجود البرلمان!!

والسؤال.. إذا كان الأمر كذلك.. فهل صار إصدار التشريعات بهذا الكم سنة حسنة، وإذ لم يكن كذلك، فلماذا نصر على اتباع تلك السنة الرديئة، الإجابة أنها ظلت عادة موروثة عن أفكار خاطئة، إن التشريع وحده قادر على حل القضايا والمشكلات، وهو هروب من مواجهة القضايا والمشكلات أو مواجهتها بسطحية وسذاجة، إذ إن الأمر يتطلب البحث عن حل لمواجهتها من ذوى الخبرة والعلم والتخصص، ثم تأتى بعد ذلك صياغة هذه الاقتراحات ووضعها محل التنفيذ وإصدار تشريع بصياغة محكمة.. ومفردات واضحة المعانى، لأن صياغة التشريع علم وفن، ولهذا فإن اللجوء إلى التشريع وحده لا يحل المشكلة، بل قد تزداد معه تعقيدا، فلدينا التشريعات التى يجرى تطبيقها منذ صدور قانون الإصلاح الزراعى عام 1952 ومازالت المشكلات والاعتراضات تنظرها اللجان القضائية حتى الآن ولا تفعل شيئا، وفى كل مرة نطلق الدعوه لإجراء إصلاحات تشريعية ، فهل هذا معقول؟

وفى خطوة جديدة صدر قرار جمهورى يحمل نمرة 187 بتاريخ 15 يونيو 2014 أى منذ أكثر من سنة ونصف، بتشكيل اللجنة العليا للإصلاح التشريعى من ثمانية عشر عضوا من كبار الخبراء، بالإضافة إلى رئيس مجلس الوزراء، حدد القرار الجمهورى مهمتها فى ثلاث أولها فى إعداد وبحث ودراسة مشروعات القوانين اللازم إصدارها أو تعديلها تنفيذا لأحكام الدستور، وتطوير وتجديد التشريعات وتوحيدها فى الموضوعات المتجانسة، وبحث الموضوعات الأخرى التى يحيلها رئيس اللجنة العليا بحكم اتصالها بأمور التشريع.. وأجاز لها إنشاء لجان فرعية وإجراء الحوار المجتمعى بشأن التشريعات، وإنشاؤها أمانة عامة حدد مهمتها بمراجعة التشريعات والقوانين السابقة بهدف تطويرها وتحديثها وتبسيط نظام التقاضى وتيسير اجراءاته وإزالة معوقاته.. على أن تجتمع مرة على الأقل كل أسبوعين، وتُشكل اللجنة العليا لجانا فرعية لإعداد وتطوير التشريعات ومنها تشريعات التقاضى والعدالة، وأن يعرض رئيس مجلس الوزراء على رئيس الجمهورية تقريرا شهريا بنتائج عمل اللجنة وعلى أن تنتهى من التشريعات العاجلة وعرضها على رئيس الجمهورية خلال شهرين، وقد نص القرار على إلغاء اللجنة التى شكلها رئيس الوزراء من قبل منذ عام 2013.. فماذا فعلت اللجنة السابقة التى تم إلغاؤها عام 2013!! وماذا كان حصاد اللجنة الجديدة حتى الآن!!

ويعترف قرار رئيس الجمهورية بتشكيل اللجنة العليا للإصلاح التشريعى بأننا مازلنا فى حاجة إلى الإصلاح التشريعى.. وهذا الإصلاح يتضمن التحديث والترشيد والتبسيط.. ولا يعنى ذلك إطلاق إصدار التشريعات أو السباق فى إصدارها.. فهل ياترى تحقق المراد وعلى مدى سنة ونصف مضت من تشكيل اللجنة العليا للإصلاح التشريعى بعد أن مضى على تشكيلها سنة ونصف!! فماذ كان جهد ونتائج أعمال اللجنة العليا للإصلاح التشريعى.. وماذا كان موقعها فى شأن ميلاد التشريعات.. ثم ماذا عن علاقتها بالمجالس المتخصصة التى تجمع العديد من الخبرات والشخصيات المستقلة، النتيجة أنه لم يحدث إطلاقاً فى التشريع.. إذ إن عدد القرارات بقوانين التى ولدت فى أثناء غيبة البرلمان وصل إلى 469 قرارا بقانون.. وهو ما يعنى أن مشكلة تكاثر التشريعات وتزاحمها.. قد وصلت إلى درجة الانفجار التشريعى، وأن القضايا مازالت قائمة تبحث عن حل وقد أوقعتنا فى أزمات شديدة، ومن المتناقضات أنه مع كثرة التشريعات.. نجد أن نصوصاً كثيرة مازالت معطلة، رغم أنها تستهدف الإصلاح.. والتصالح.. وفض المنازعات، وأخرى متناقضة .. وثالثة تعود بنا إلى الوراء.. ولعل إصدار هذا الكم الهائل من التشريعات أخيرا فى غيبة البرلمان فى مواجهة ما ينص عليه الدستور من ضرورة مناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يوماً قد أوقعتنا فى أزمة مع الدستور نفسه.. فماذا نحن فاعلون فى مواجهة ذلك الانفجار التشريعى الحاصل فى البلاد.. الذى يسبب انتشار الفساد ويهدد العدالة؟! ثم ماذا عن مجلس النواب الجديد بوصفه سلطة التشريع فى البلاد.. وماذا عن مسلك الحكومة فى مواجهة قضايا البلاد بالعلم والخبرة.. وقليل من التشريع، فى مواجهة ذلك الانفجار التشريعى.

اظهر المزيد

د. شوقي السيد

(1937 – 10 ديسمبر 2021) .. فقيه دستوري، وعضو سابق بالبرلمان المصري، وقامة قانونية كبيرة، ولد بمدينة «السنبلاوين» في محافظة الدقهلية. تلقى تعليمًا أزهريًا وأصبح من رجالات التعليم، وكان من أصحاب العقليات المتفتحة. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1959. وبعد تخرجه من الجامعة تقدم إلى النيابة العامة، وقبل بها، وبعدها انتقل للعمل فى مجلس الدولة حتى تقدم باستقالته من العمل بالقضاء للعمل العام. عمل مستشارا بمجلس الدولة، وعضو المجلس الأعلى للصحافة الأسبق. كان عضوًا في لجنة تقنين الشريعة والقانون بمجلس الشعب، في الفترة من 1979 حتى 1984. وعضوًا في مجلس الشورى فى الفترة من 1995 حتى عام 2011، ووكيل للجنة حقوق الإنسان بالمجلس "2008 - 2011". تقلد العديد من المناصب، وعمل مستشارًا قانونيًا للعديد من الوزارات والمؤسسات العلمية والصحفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى