الدكتور مراد وهبة يكتب: المخ والعقل والمناخ
من الظواهر اللافتة للانتباه فى القرن الواحد والعشرين ظاهرة كوكب الأرض. والمفارقة أن الانسان يحيا على هذا الكوكب ومع ذلك لم يكن على وعى بمدى تأثيره على العقل إلا فى زمنين: فى القرن السادس عشر وفى القرن الواحد والعشرين.
فى القرن السادس عشر كان الفضل فى بزوغ ذلك الوعى إلى العالم الفلكى كوبرنيكس عندما أعلن نظريته القائلة بدوران كوكب الأرض حول الشمس فى كتابه المعنون «عن دوران الأفلاك».
والمفارقة أيضا أن السلطة الدينية قد ارتعبت من هذه النظرية إلى الحد الذى عنده صادرت الكتاب وحاكمت جليليو لأنه أيد النظرية. وأظن أننى أول مَنْ فطِن إلى العلاقة الكامنة فى هذه النظرية بين دوران كوكب الأرض والعلمانية.
وكانت حجتى فى تبرير هذه العلاقة مردودة إلى أن هذه النظرية تعنى أن الانسان يدور مع كوكب الأرض ومع دورانه يكون فى حالة حركة والحركة تنطوى على تغير، والتغير يعنى النسبية، والنسبية تعنى عدم قدرة العقل على امتلاك الحقيقة المطلقة. ومن هنا جاء تعريفى للعلمانية بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق.
ثم انشغلت بتشريح المخ مستعينا فى ذلك بكتاب كننجهام فى التشريح. إلا أن المفارقة هنا أننى أجريت التشريح على مخ لجثة ولم يكن على مخ حى حتى أتبين العلاقة بين حركة المخ ومسار العقل. وبعد ذلك قرأت كتاباً لعالِم الأمراض العقلية الفرنسى جورج دوما وعنوانه «عالم الأرواح والآلهة».
ومن هنا قررت الانشغال ببحث العلاقة بين المخ والعقل والجنون فترددت على مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، وفيها التقيت مريضاً بالبارانويا.
والبارانويا مرض عقلى يدور على فكرة ثابتة ولكنها كاذبة، ومع ذلك فإن المريض يدلل على صدقها بحجج منطقية.
وكان صاحبنا يعتقد بأنه إله الكون.
ومن ثم تساءلت: ماذا حدث للعقل حتى يصل بصاحبه إلى الاعتقاد بأنه اله الكون.
إن عقل صاحبنا قد أبدع فيما أبداه من أدلة، ولكنه إبداع مرضى يمنعه من تغيير الواقع.
ومن هنا تساءلت: فماذا عن الابداع السوى؟
ومن هنا بدأت الاهتمام بدراسة الابداع فى عام 1977 عندما قدمت بحثاً إلى مؤتمر بجزيرة كيفالونيا باليونان، وكان عنوانه «العقل الانسانى والابداع الفنى» انتهيت منه إلى أن الذكاء لفظ غير علمى سواء عرفناَه بأنه القدرة على التكيف مع البيئة أو القدرة على تكوين علاقات جديدة.
التعريف الأول يعنى أن السلوك الانسانى سلبى فى حين أنه ايجابى لأن الانسان مجاوز للبيئة. والتعريف الثانى يعنى أن الذكاء لا يتميز عن العقل لأن تكوين العلاقات الجديدة هو من شأن العقل.
ومن هنا ليس ثمة مبرر لهذه الازدواجية، وبالتالى يلزم أن نكتفى بلفظ العقل. وحيث إن العقل قادر على تكوين علاقات جديدة فهو اذن مجاوز للوضع القائم، ومن ثم فهو مبدع.
وفى عام 1978 ألقيت بحثاً عنوانه «أسس فلسفية للتربية» فى مؤتمر ببغداد، ودار على التضاد بين ثقافة الذاكرة وثقافة الابداع. فالأنظمة التربوية تفرز ما يمكن تسميته «ثقافة الذاكرة» بمعنى أن القدرة على الحفظ دليل على قوة الذاكرة، وقوة الذاكرة دليل على شدة الذكاء. ولا أدل على ذلك من أن مقاييس الذكاء التى اصطنعها علماء النفس تدور على اختبار الانسان من حيث قدرته على استخدام الماضى. أما ثقافة الابداع فعلى الضد من ذلك إذ تنشغل بالمستقبل.
وفى عام 1984 ألقيت بحثاً عنوانه «الابداع: ايديولوجى أم ثقافى» فى مؤتمر بكيبك بكندا. الفكرة المحورية فيه تدور على العلاقة العضوية بين الابداع والمستقبل. فالابداع تجسيد للمستقبل وليس امتداداً للماضى. الابداع اذن معطى كمشروع للمستقبل.
وفى 7/ 11/ 1988 اقترحت على وزير التعليم الدكتور فتحى سرور عقد ندوة عن مشروعى الذى تقدمت به إليه وعنوانه «الابداع والتعليم العام» فوافق ومن ثم انعقدت الندوة وامتددت بها إلى كلية التربية، ولكن المشروع قُبر فى المؤسستين. ومع ذلك ظل السؤال قائما: ما العلاقة بين المخ والعقل؟ وعندئذ قرأت كتاباً من تأليف مفكريْن أحدهما عالِم متخصص فى المخ اسمه جون اكلس والآخر فيلسوف اسمه كارل بوبر. وعنوان كتابهما «النفس ومخها». والاتفاق بينهما أن كلا منهما يساير كوبرنيكس ودارون فى أن مكانة الانسان فى الكون متميزة. أما الافتراق فيكمن فى أن اكلس بؤمن بالله وخلود الروح بينما بوبر لا يدرى عنهما شيئا. كان ذلك فى القرن العشرين، أما فى القرن الحادى والعشرين فقد قرأت كتاباً عنوانه الرئيسى «العقل يتغير» وعنوانه الفرعى «كيف تترك التكنولوجيات الرقمية آثارها على أمخاخنا». ومعنى ذلك أن ثمة علاقة عضوية بين العقل والمخ.
والسؤال إذن: كيف يصبح المخ عقلاً؟
وكان جوابى عندما نربط بين مشاعر ذاتية وبين أحداث فيزيقية فى المخ، أى عندما تكون الروابط بين الخلايا العصبية هى أساس الوعى، ويكون فيها الحدث الفيزيقى سببا فى الحدث العقلى. ومعنى ذلك أن الوعى عملية تحدث فى المخ. وبناء عليه نثير هذا السؤال: هل معرفة آليات علم الأعصاب يمكنها أن تكشف لنا عن سبب فقدان العقل؟ وإذا كان العقل الانسانى يتميز بأنه عقل مبدع فهل معرفة هذه الآليات تكون مصدراً لمعرفة آليات الابداع؟
واليوم ثمة تغير فى المناخ يمكن أن يحدث تخريباً فى كوكب الأرض عندما يمتلئ بثانى أكسيد الكربون المفسد لحياة الانسان فهل فى الامكان التقليل من نسبة ارتفاع ذلك الغاز؟ وإذا قيل إن البترول أدى دوراً مساعداً فى ذلك الارتفاع فهل فى إمكان الانسان ابداع طاقة بديلة لانقاذ كوكب الأرض؟ هذا هو السؤال العمدة فى هذا القرن.