عباس محمود العقاد يكتب: التكليف والحرية
من شروط التكليف طاعة وحرية ..
وهذه بديهية يغفل عنها كثير من المجادلين فى قضية القدر ، وفى قضية الايمان ، وفى قضية التكليف والجزاء ، فيقصرون النظر على شرط الحرية ويهملون شرط الطاعة كأنه مناقض للجزاء وكأنه من اللازم عقلا أن يكون الجزاء مقرونا بالحرية المطلقة ، وهى فى ذاتها استحالة عقلية بكل احتمال يخطر على البال فى فهم خلق الانسان .. فمن
بحث عن الايمان بالتكليف غير ناظر إلى شرط ( الطاعة ) فلا جرم يضل عنه ولا
ينتهى إلى قرار ، لأنه يبحث عن شئ اخر ولا يبحث عن التكليف ولا عن الايمان
فى القرآن خطاب متكرر إلى العقل، وبيان متكرر لحساب الإنسان العاقل على الخير والشر مع إسناد اإارادة إليه فى استحقاقه للثواب والعقاب
وفى آيات صريحة تسند الإرادة إلى الله، وتقرر أنه – سبحانه وتعالى – هو الخالق المقدر الذى يقدر الهداية والضلال ، ويعطى كل شئ خلقه ويهديه وهى آيات كثيرة مقصودة بالتكرار وإن لم تبلغ فى الكثرة عدد آيات الخطاب والتكليف، وآيات التذكير بالعقل والنظر والتمييز والتفكير
قوله تعالى: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (البقرة : 213)
وقوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُۗ» (الأعراف : 29 – 30).
وقوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ» (الأعلى : 1 – 3).
وقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (إبراهيم : 4)
وقوله تعالى: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ» (إبراهيم : 27).
وكثرة الآيات بهذا المعنى تبعد عن الذهن أن يكون فيها مجال للتأويل بغير معناها الظاهر على اختلاف العبارة والمناسبة، فمعناها الظاهر الذى لا تأويل فيه أن الله سبحانه وتعالى هو الفعال لما يريد الذى يخلق عباده ويخلق ما يعملون.
أفى هذا تناقض فى حكم العقل إذا نظرنا إلى الأمر كله نظرة المعقول ولم نقصر النظر إلى النصوص، أو إلى واجب الاعتقاد بمقتضى هذه النصوص؟
إن الرجوع بالقضية إلى أسسها المحتملة على كل احتمال ، ينفى التناقض ، ويرينا كيف يكون هذا الاعتقاد حلا للمشكلة من أسسها المفروضة جميعا، وخروجا من التناقض الذى يلزمها على كل احتمال غير هذا الاحتمال.
وليكن الإنسان روحا وعقلا خلقه الله، أو يكن تركيبا عارضا من تراكيب المادة لم يخلقه أحد، على قول المؤمنين بالمادة مجردة من الفكرة والإرادة، وليكن التكليف إرادة من عند الله أو يكن ضرورة من قضاء الواقع لا يرتبط بها أمر ولا جزاء، فكيف يتصور العقل إرادة الانسان على كل احتمال؟
إنه لا يتصورها إرادة مطلقة من جميع القيود، لأن ارادة إنسان واحد تنطلق بغير قيد لكل إنسان سواه، وكيف يأتى هذا الانسان الواحد بإرادته المطلقة منفردا بها بين أمثاله المقيدين؟
أما أن يوجد الناس جميعا بإرادة مطلقة لكل منهم على سواء، فهذه هى الإحالة العقلية فى الفرض والتقدير قبل الوصول بها إلى الايجاد والتحقيق.
فإذا كانت الارادة المطلقة هى إرادة الله، فخلق الناس مكلفين بغير إرادة لهم شئ غير معقول وغير مقبول، لأن سقوط التكليف لا معنى له فى هذه الحالة إلا أن يخلق الناس جميعا متشابهين متماثلين متساوين فى العمل الصالح الذى يساقون إليه، كما تساق الآلات، فلا فضل إذا للعاقل على غير العاقل، ولا تمييز للانسان على الجماد المجرد من الحس، فضلا عن الحيوان.
فإذا وجب تكليف الإنسان، فالعقل الانسانى لا يوجبه إلا كما ينبغى أن يوجب على حالة واحدة لا سواها، وهى حالة الإرادة المخلوقة يودعها فيه الخالق كما ينبغى أن تودع، وهى لا ينبغى أن تودع إلا على هذا الفرض الذى يدعو إليه القرآن.
إن الحرية المخلوقة حرية صحيحة كما ينبغى أن تكون فى احتمال العقل المدرك المميز الذى يهتدى بإذن الله لما اختلفوا فيه.
ولا يقال إن الحرية التى تخلق ليست بحرية .. فإن الحرية غير القيد سواء كانا مخلوقين أو مطبوعين، وسواء كانا من عالم الروح أو من عالم المادة عند التمييز بينهما كما تتمايز قيمة المعدن نفيسا وغير نفيس، وكلاهما مخلوق أو مصنوع، فإن صنعنا للآنية الذهبية وللآنية النحاسية لا ينفى نفاسة الأولى ولا يسوى بين الآنيتين المصنوعتين.
وليس فى العقل شئ يسمى حرية مطبوعة تعلو على الحرية المخلوقة بالانطلاق من جميع القيود.. لأن الانطلاق من جميع القيود غير معقول وغير موجود.
وإذا وجدت للمخلوقات العاقلة حرية أو وجدت لها إرادة، فلترجع إلى العقل لترى كيف يتصورها العقل – أى عقل – وكيف تكون على احتمال واحد دون كل احتمال، أنها لا تكون سواء فى كل إنسان، لأنها إذا امتنع فيها خلاف القوة لم يمتنع خلاف الزمن والعمر، ولا خلاف المكان والجسد، ولا خلاف الصغر والكبر، ولا خلاف الحركة والجمود.
وإذا امتنع فيها كل هذا الخلاف فليست هى بشئ، إذ ليست الموجودات التى لم تتمايز ولم تتنوع بأشياء يقبلها التصور، بل هى عدم ينقطع عن الوجود، أو كائن لا تمييز فيه ولا تكليف ولا حسنة ولا سيئة، ولا ثواب ولا عقاب.
فإذا وجد المخلوق حرا ذا إرادة فلا وجود له إلا بهذا الاختلاف فى حكم العقل كيفما كان حكم النصوص.
وإذا قضى العقل بهذا دون سواه، فالعقل هو الذى يتصور إرادة الله وإرادة الانسان على احتمال واحد دون سواه.
وحكم الايمان هنا وحكم العقل متماثلان إذ كان كل ما عدا حرية الايمان فرضا غير معقول بل غير موجود.
ونحن إذا فى حل من القول بكفاية العقل وحده لتلقى خطاب التكليف إذ كان المؤمن والفيلسوف معا يذهبان بالعقل بين نقائض الفروض، فلا يستقران على فرض ممكن أو صالح غير اعتماد التكليف على العقل واعتماد العقل على الايمان، والانكار الجزاف يوقع العقل فى نقيضين، وهو تعطيل للعقل أفضل له من كل تعطيل.
وإنما تساورنا الحيرة فى مسائل الإيمان عامة من خطأ شائع يوهم أناسا من المتدينين والمنكرين أن الايمان على الدوام تسليم بما يأباه العقل وبما يتقبله – إذا تقبله – وهو مغمض العين مكتوف اليد، يتساوى منه النظر وترك النظر، بلا اجتهاد ولا محاولة ولا موازنة بين ما يجوز وما يمتنع كل الامتناع.
هذا إيمان يلغى العقل ويلقى به بعيدا إلى طرف التصديق بغير سؤال ولا انتظار جواب.. فإما عقل ولا تصديق، وإما تصديق ولا عقل: ضدين لا يجتمعان.
والفرق بعيد بين الإيمان الذى يلغى العقل، والإيمان الذى يعمل فيه العقل غاية عمله، ثم يعلم من ثم أين ينتهى وأين يبتدئ الايمان.
إن الايمان هنا نتيجة لعمل العقل غاية جهده، وليس نتيجة لإهماله وإبطال وجوده.
والعقل يستطيع أن يصل إلى هذه النتيجة، فتلزمه حجة الدعوة إلى التصديق بالغيب المجهول.
والعقل يستطيع أن يعلم بضرورة الإيمان لأن إنكار هذه الضرورة نقيضة عقلية وليس بنقيضة للدين والعقيدة وحسب، ولا سبيل إلى الايمان بموجود كامل مطلق الكمال يصح أن يؤمن به غير الاعتراف بضرورة هذا الايمان ولزومه – منطقا – قبل لزومه لهداية الضمير.
فالموجود الذى يصح أن نؤمن به هو وجود كامل أبدى ليست له حدود، والموجود الذى ليست له حدود لا يحيط به إدراك العقل المحدود، فما النتيجة اللازمة لهذه الحقيقة التى لا شك فيها؟
هى إحدى اثنتين.. إما إنكار جزاف، وإما تسليم بحقيقة تفوق إدراك العقول.
الانكار معناه أن سبب الإيمان الوحيد، يكون هو السبب الوحيد لكل تعطيل، والإنكار الجزاف يوقع العقل فى نقيض، وهو تعطيل للعقل أفضل له من الإنكار.
إن الموجود السرمدى الكامل المطلق الكمال هو الإله الذى نريده بالإيمان، وهذا هو حقه فى إيمان العقلاء بوجوده وربوبيته، ولكن العقل المحدود لا يحيط بالوجود المطلق الذى ليست له حدود.
أفيقول العقل إذا: لا إيمان بهذا الموجود المطلق لأنه الموجود الذى يصح فى العقل أن نؤمن به ونبحث عنه، ولا يصح فى العقول إيمان بغيره؟
العقل لا يقول هذا..
والعقل إذا قال بضرورة الإيمان على هذه الصفة، وبهذا الحق، لم يكن قد ألغى عمله وأبطل وجوده، بل هو يبلغ بذلك غاية عمله، فهو عقل يزيد عليه إيمان.
إن العقل الذى يزيد عليه الإيمان، هو العقل الذى خاطبه القرآن بالتكليف، أو هو العقل المؤمن الذى تعنيه النبوة بالتذكير والتبشير، وهو المسئول أن يستمع إلى النبى المرسل من عالم الغيب، فلا معذرة له بعد حجة الغيب والتسليم، وبعد حجة الشهادة والتفكير.
ومع التسليم بهذا الموجود الكامل، لا يعرف عقل الانسان تكليفا غير التكليف الذى بسطته نصوص القرآن، فلا معنى للتكليف أصلا إن لم تكن فيه طاعة وحرية، ولا معنى للحرية من وراء إرادة الخالق وإرادة المخلوق.