دين ودنيا

شبهات حول بناء الكنائس وترميمها وحكم الإسلام في ذلك.. دار الافتاء تجيب

نرفع لسيادتكم نموذجًا لما يتم تداوله بين أوساط بعض المسلمين من شبهات حول حكم بناء الكنائس وترميمها، وجاءت هذه الشبهات كالتالي:

الشبهة الأولى: بناء الكنائس والبِيَع حرام؛ حيثُ إنَّ المساجد بيوت عبادة الله للمسلمين، والكنائس والبِيَع معابد اليهود والنصارى يعبدون فيها غير الله، والأرض لله عز وجل، وقد أمر ببناء المساجد وإقامة العبادة فيها لله عز وجل، ونهى سبحانه عن كل ما يُعبَد فيه غير الله؛ لِمَا فيه من إقرار بالباطل، وتهيئة الفرصة للقيام به، وغش الناس بوضعه بينهم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].

وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

الشبهة الثانية: أجمع العلماء على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أُحدثَت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها؛ بل تجب طاعته.

وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره؛ والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

قال شيخ الإسلام: “من اعتقد أنَّ الكنائس بيوت الله وأنَّ الله يُعبدُ فيها، أو أنَّ ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم وأنَّ ذلك قربة أو طاعة فهو كافر”.

وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ۞ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 25-28].

الشبهة الثالثة: صار من ضروريات الدين تحريمُ الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام؛ ومنه: تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة؛ يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما؛ لأنَّ تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأنَّ العبادات التي تؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، ولا يجوز اجتماع قبلتين في بلدٍ واحدٍ من بلاد الإسلام، ولا أن يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها؛ ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء هذه المعابد الكفرية. وقد قال شيخ الإسلام: “من اعتقد أنَّ زيارة أهلِ الذمة كنائسَهم قربةٌ إلى الله فهو مرتدٌّ، وإن جهل أنَّ ذلك محرم عُرِّف ذلك، فإن أصرَّ صار مرتدًّا” اهـ.

الشبهة الرابعة: من المعلوم أنَّ الأشياء التي ينتقض بها عهد الذمي: الامتناع من بذل الجزية، وعدم التزام أحكام الإسلام، وأن يُقاتل المسلمين منفردًا أو في الحرب، وأن يلتحق الذمي بدار الحرب مُقيمًا بها، وأن يتجسس على المسلمين وينقل أخبارهم، والزنا بامرأةٍ مسلمة، وأن يذكر الله تعالى أو رسوله أو كتبه بسوء.

وإذا انتقض عهد الذمي: حلَّ دمه وماله، وسار حربيًّا يُخير فيه الإمام بين القتل، أو الاسترقاق، أو المن بلا فدية، أو الفداء.

الشبهة الخامسة: ذكر البعضُ أنَّ البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمُون عنوةً وتملكوا أرضها وساكنيها لا يجوز إحداث كنائس فيها، ويجب هدم ما استحدث منها بعد الفتح؛ لأنَّ هذه الكنائس صارت ملكًا للمسلمين بعد أن فتحوا هذه البلاد عنوة.

وأمَّا البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صُلْحًا: فهي على نوعين:

الأول: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها، أو يصالحهم على مالٍ يبذلونه وهي الهُدنة؛ فلا يُمنعون من إحداث ما يختارونه فيها؛ لأنَّ الدار لهم.

الثاني: أن يُصالحهم على أنَّ الدار للمُسلمين، ويؤدون الجزية إلينا، فحكمها ما اتُّفقَ عليه في الصلح، وعند القدرة يكون الحكم ألَّا تُهدم كنائسهم التي بنوها قبل الصلح، ويُمنعون من إحداث كنائس بعد ذلك.

الشبهة السادسة: حكم بناء ما تهدَّمَ من الكنائس أو ترميمها: على ثلاثة أقوال:

الأول: المنع من بناء ما انهدم وترميم ما تلف.

الثاني: المنع من بناء ما انهدم، وجواز ترميم ما تلف.

الثالث: إباحة الأمرين.

فالرجاء التفضل بالاطلاع والتوجيه بما ترونه سيادتكم نحو الإفادة بالفتوى الشرعية الصحيحة في هذا الشأن حتى يمكن نشرها بين أهالي القرى؛ تصحيحًا للمفاهيم ومنعًا للشبهات.

الجواب : الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام

 الشبهة الأولى:

بناء الكنائس والبِيَع حرام؛ حيثُ إنَّ المساجد بيوت عبادة الله للمسلمين، والكنائس والبِيَع معابد اليهود والنصارى يعبدون فيها غير الله، والأرض لله عز وجل، وقد أمر ببناء المساجد وإقامة العبادة فيها للهِ عز وجل، ونهى سبحانه عن كل ما يُعبَد فيه غير الله؛ لِمَا فيه من إقرار بالباطل، وتهيئة الفرصة للقيام به، وغش الناس بوضعه بينهم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].

وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

الجواب:

أمر الإسلام أتباعه بترك الناس وما اختاروه من أديانهم، ولم يُجبِرْهم على الدخول في الإسلام قهرًا، وسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها.

وجعل القرآن الكريم تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ۞ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الصوامع: التي تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، وصلوات: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين” أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم في “التفسير”.

وقال مقاتل بن سليمان في “تفسيره” (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية) عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا﴾: [كل هؤلاء الملل يذكرون اللهَ كثيرًا في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها] اهـ.

وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة؛ فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين» أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب “الأموال” (ص: 244، ط. دار الفكر)، وأبو عمر بن شبة النُّمَيْري في “تاريخ المدينة المنورة” (2/ 584-586، ط. دار الفكر)، وابن زنجويه في “الأموال” (2/ 449، ط. مركز فيصل للبحوث)، وابن سعد في “الطبقات الكبرى” (1/ 264، ط. دار صادر)، والحافظ البيهقي في “دلائل النبوة” (5/ 389، ط. دار الكتب العلمية)، وذكره الإمام محمد بن الحسن الشيباني في كتاب “السير” (1/ 266، ط. الدار المتحدة للنشر).

وقد كلفت الشريعة الإسلامية المسلمينَ بتوفير الأمان لأهل الكتاب في أداء عبادتهم، وهذا كما يقتضي إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدم أو تخريب، وإعادتها إذا انهدمت أو تخربت، فإنه يقتضي أيضًا جواز السماح لهم ببناء الكنائس وأماكن العبادة عند احتياجهم إلى ذلك؛ فإن الإذنَ في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مَقصودِه؛ كما يقول الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد في “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام” (ص: 479، ط. مؤسسة الرسالة)، [والرضا بالشيء رضًا بما يتولد عنه] اهـ. كما نصَّ على ذلك الإمام السبكي في “الأشباه والنظائر” (1/ 456، ط. دار الكتب العلمية)، والإمام السيوطي في “الأشباه والنظائر” (4/ 410، ط. مؤسسة الرسالة).

وإلا فكيف يُقرّ الإسلام أهل الذمة على بقائهم على أديانهم وممارسة شعائرهم ثم يمنعهم من بناء دور العبادة التي يتعبدون فيها عندما يحتاجون ذلك! فما دام أنَّ المسلمين قد ارتضوا بمواطنة غير المسلمين، ومعايشتهم، وتركهم وما يعبدون، والحفاظ على مقدساتهم وأماكن عبادتهم؛ فينبغي أن يجتهدوا في توفير دور العبادة لهم وسلامة تأديتهم لعبادتهم.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرَّ في عام الوفود وفد نصارى نجران على الصلاة في مسجده الشريف، والمسجد هو بيت الله المختص بالمسلمين، فإنه يجوز -مِن باب أَوْلَى- بناءُ الكنائس ودور العبادة التي يؤدون فيها عباداتهم وشعائرهم التي أقرهم المسلمون على البقاء عليها إذا احتاجوا لذلك:

فروى ابن إسحاق في “السيرة” -ومن طريقه ابن جرير في “التفسير” واللفظ له، والبيهقي في “دلائل النبوة”- عن محمد بن جعفر بن الزبير: أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جُبَبٌ وأردية في بلحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا يُصلُّون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -زاد في “السيرة” و”الدلائل”: فأراد الناس منعهم-، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعُوهُم»، فصلَّوْا إلى المشرق.

وعلى ذلك جرى عمل المسلمين عبر تاريخهم المشرف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة؛ منذ العصور الأولى وعهود الصحابة والتابعين وهلم جرًّا.

فنصَّ عالِما الديار المصرية: الإمام المجتهد المحدث الفقيه أبو الحارث الليث بن سعد، والإمام المحدث قاضي مصر أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة على أن كنائس مصر لم تُبْنَ إلا في الإسلام، وأشارا على والي مصر في زمن هارون الرشيد موسى بن عيسى بإعادة بناء الكنائس التي هدمها مَن كان قبله، وجعلا ذلك مِن عمارة البلاد، وكانا أعلم أهل مصر في زمنهما بلا مدافعة.

فروى أبو عمر الكندي في كتاب “الولاة والقضاة” (ص: 100، ط. دار الكتب العلمية): [أن مُوسَى بْن عيسى لمّا ولِّيَ مصر من قِبَل أمير المؤمنين هارون الرشيد أَذِن للنصارى فِي بُنْيان الكنائس التي هدمها عليّ بْن سُليمان، فبُنيت كلّها بمشْوَرة الليث بْن سعد وعبد الله بْن لَهِيعة، وقالا: هُوَ من عِمارة البِلاد، واحتجَّا أن عامة الكنائس التي بِمصر لم تُبْنَ إلَّا فِي الْإِسْلَام فِي زمَن الصحابة والتابعين] اهـ.

وقال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب” (ص: 159، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وأوَّل كنيسة بنيت بفسطاط مصر، كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة، عن بعض شيوخ أهل مصر، الكنيسة التي خلف القنطرة أيام مسلمة بن مخلّد، فأنكر ذلك الجند على مسلمة وقالوا له: أتقّر لهم أن يبنوا الكنائس! حتى كاد أن يقع بينهم وبينه شرّ، فاحتجّ عليهم مسلمة يومئذ فقال: إنها ليست في قيروانكم، وإنما هي خارجة في أرضهم، فسكتوا عند ذلك] اهـ.

ويذكر المؤرخون أنه قد بُنِيت في مصر عدة كنائس في القرن الأول الهجري، مثل كنيسة “مار مرقص” بالإسكندرية ما بين عامي (39هـ) و (65هـ)، وفي ولاية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامي (47هـ) و (68هـ) بُنِيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم، كما سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة “حلوان” ببناء كنيسة فيها، وسمح كذلك لبعض الأساقفة ببناء ديرين.

ويذكر العلامة المؤرخ المقريزي في خطط مصر المُسمَّى “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” (4/ 374، ط. دار الكتب العلمية) أمثلة عديدة لكنائس أهل الكتاب، ثم يقول بعد ذلك: [وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في الإسلام بلا خلاف] اهـ.

وأنَّ ما قاله جماعة من الفقهاء بمنع إحداث الكنائس في بلاد المسلمين: هي أقوال لها سياقاتها التاريخية وظروفها الاجتماعية المتعلقة بها؛ حيث مرت الدولة الإسلامية منذ نشأتها بأحوال السلم والحرب، وتعرضت للهجمات الضارية والحملات الصليبية التي اتخذت طابعًا دينيًّا يغذيه جماعة من المنتسبين للكنيسة آنذاك، مما دعا فقهاء المسلمين إلى تبني الأقوال التي تساعد على استقرار الدولة الإسلامية والنظام العام من جهة، ورد العدوان على عقائد المسلمين ومساجدهم من جهة أخرى. ولا يخفى أن تغير الواقع يقتضي تغير الفتوى المبنية عليه؛ إذ الفتوى تتغير بتغير العوامل الأربعة (الزمان والمكان والأشخاص والأحوال).

ولا يصح جعل هذه الأقوال حاكمة على الشريعة بحال؛ إذ لا يوجد نص شرعي صحيح صريح يمنع بناء الكنائس ودور العبادة وإحداثها في بلاد المسلمين عندما يحتاج إليها أهل الكتاب من رعايا الدولة الإسلامية، بل الأدلة الشرعية الواضحة ومُجمَل التاريخ الإسلامي وحضارة المسلمين -بل وبقاء الكنائس والمعابد نفسها في طول بلاد الإسلام وعرضها، وشرقها وغربها، في قديم الزمان وحديثه، واستحداث كثير منها في بلاد المسلمين في العهود الإسلامية -كل ذلك يشهد بجلاء كيف احترم الإسلام دور العبادة وأعطاها من الرعاية والحماية ما لم يتوفر لها في أي دين أو حضارة أخرى.

الشبهة الثانية:

أجمع العلماء على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أُحدثَت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها، بل تجب طاعته.

وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره؛ والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].

قال شيخ الإسلام: “من اعتقد أنَّ الكنائس بيوت الله وأنَّ الله يُعبدُ فيها، أو أنَّ ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم وأنَّ ذلك قربة أو طاعة فهو كافر”.

وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ۞ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 25-28].

الجواب:

أمر الإسلام بإظهار البر والرحمة والقسط في التعامل مع المخالفين في العقيدة؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

جماهير العلماء والفقهاء على جواز بناء ما تهدَّم من الكنائس بل واستحداث كنائس جديدة حفاظًا لهم على دور عباداتهم كما أمر الشرع.

وقد حافظ المسلمونَ منذ البداية على تطبيق ما اشترطوه على أنفسهم من حماية دور العبادة الخاصة بالأديان الأخرى، فلم تمتد أيديهم إلى بِيَع اليهود أو كنائس النصارى؛ فعندما نزل العرب في الموصل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان بها كنائس ومنازل للنصارى وبِيَع ومحلة لليهود؛ قام والي الموصل “هرثمة بْن عرفجة البارقي” بإنزال العرب في أماكن غير أماكن اليهود والنصارى وبنى للمسلمين مسجدًا:

قال البلاذُري في “فتوح البلدان” (ص: 323، ط. دار ومكتبة الهلال): [حدثني أَبُو موسى الهروي عن أَبِي الْفَضْل الأنصاري عن أَبِي المحارب الضبي أن عُمَر بْن الخطاب رضي الله عنه عزل عتبة عَنِ الموصل وولَّاها هرثمة بْن عرفجة البارقي وكان بها الحصن، وبِيَع النصارى، ومنازل لهم قليلة عند تلك البيع، ومحلة اليهود؛ فمصرها هرثمة، فأنزل العرب منازلهم، واختطَّ لهم، ثُمَّ بنى المسجد الجامع] اهـ.

ونصَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده لأهل القدس على حريتهم الدينية وأعطاهم الأمانَ لأنفسهم والسلامةَ لكنائسهم؛ وكتب لهم بذلك كتابًا؛ فروى الإمام الطبري في “تاريخه” (2/ 449، ط. دار الكتب العلمية): [عن خالد وعبادة، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: أنه لا تُسكَنُ كنائسُهم ولا تُهدَمُ ولا يُنتَقَصُ منها ولا مِن حَيِّزها ولا من صَلِيبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة] اهـ.

وكتب لأهل لُدّ كتابًا مماثلًا جاء فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ الله عمر أمير المؤمنين أهلَ لُدّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصُلُبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم: أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم ولا يُنتَقَص منها ولا مِن حيزها ولا مللها ولا مِن صُلُبهم ولا من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارَّ أحد منهم”.

وذكر ابن خلدون في “تاريخه” (2/ 225، ط. دار إحياء التراث العربي): [أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمّا دخل بيتَ المقدس حان وقت الصلاة وهو في إحدى الكنائس، فقال لأسقفها: أريد الصلاة، فقال له: صلِّ موضعَك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردًا، فلما قضى صلاته قال: “لو صلَّيْتُ داخلَ الكنيسة أخذها المسلمون بعدى وقالوا: هنا صلَّى عمر] اهـ.

ونقل المستشرقون هذه الحادثة بإعجاب كما صنع درمنغم في كتابه “The live of Mohamet” فقال: “وفاض القرآن والحديث بالتوجيهات إلى التسامح، ولقد طبَّق الفاتحون المسلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة، عندما دخل عمر القدس أصدر أمره للمسلمين أن لا يسببوا أي إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق للصلاة في كنيسة القيامة امتنع، وعلَّل امتناعه بخشيته أن يتخذ المسلمون من صلاته في الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة”، ومثله فعل ب سميث في كتابه: “محمد والمحمدية” اهـ. نقلاً عن “التسامح والعدوانية” لصالح الحصين (ص:120-121).

وبمثل ذلك أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه الأمان لأهل دمشق على كنائسهم، وكتب لهم به كتابًا؛ كما ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 120، ط. لجنة البيان العربي).

وكذلك فعل شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه بأهل طبرية؛ فأعطاهم الأمان على أنفسهم وكنائسهم؛ كما ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 115).

وطلب أهل بعلبك من أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الأمان على أنفسهم وكنائسهم فأعطاهم بذلك كتابًا؛ كما جاء في “فتوح البلدان” (ص: 129)، وكذلك فعل مع أهل حمص وأهل حلب؛ كما جاء في “فتوح البلدان” (ص: 130، 146).

وأعطى عياض بن غنم رضي الله عنه لأهل الرقة الأمان على أنفسهم والسلامة على كنائسهم وكتب لهم بذلك كتابًا؛ ذكره البلاذري في “فتوح البلدان” (ص: 172).

وكذلك فعل حبيب بن مسلمة رضي الله عنه بأهل دَبِيل، وهي مدينة بأرمينية؛ حيث أمَّنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وبِيَعِهم نصاراها ومجوسها ويهودها شاهدهم وغائبهم. وكتب لهم بذلك كتابًا، وكان ذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ كما في “فتوح البلدان” (ص: 199).

كما حرص الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على تطبيق هذه العهود، فكتب إلى عامله يأمره بألَّا يهدم كنيسةً ولا بيعةً ولا بيتَ نارٍ صولحوا عليه:

فعن أُبَيِّ بن عبد الله النخعي قال: أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز: “لا تهدموا بيعة، ولا كنيسة، ولا بيت نار صولحوا عليه” أخرجه ابن أبي شيبة في “المصنف”، وأبو عبيد القاسم بن سلام في “الأموال” (ص: 123، ط. دار الفكر).

ورفَضَ الخليفةُ عمر بن عبد العزيز بشدَّة هدم الكنائس أو تخريبها حينما طُلب منه ذلك، وقال: إنَّ أصحاب هذه الكنائس هم من الرَعيَّةِ التي يجب علينا حمايتهم وتوفير الأمان لهم:

قال عبد الله بن عبد الحكم في “سيرة عمر بن عبد العزيز” (ص: 147، ط. عالم الكتب): [محاورة عمر رَجُلَين من الخوارج: ودخلَ رجُلان من الخوارج على عمر بن عبد العزيز، فقالا: السلامُ عليك يا إنسان، فقال: وعليكما السلام يا إنسانان.. قالا: أهل عهودِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقتهم، قال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، قالا: خرِّب الكنائس، قال: هي من صلاح رعيتي] اهـ.

وروى ابن أبي شيبة في “مصنفه” عن عطاءٍ رحمه الله أنه سُئِل عن الكنائس؛ تهدم؟ قال: “لا، إلا ما كان منها في الحرم”.

وكان من المتوقع عند إنشاء مدينة بغداد وقيام الدولة العباسية، أن لا تُقام فيها كنيسة ولا بيعة، باعتبارها مدينة جديدة، ومع ذلك فقد كان لنصارى بغداد معابدَ وكنائسَ عديدة في شرق المدينة وغربها؛ لأنَّ الخلفاء العباسيين قد سمحوا لهم بإنشاء هذه الكنائس وترميم ما تهدَّم منها.

وقد تمتع النصارى في ظل هذه المُدن بحرياتٍ واسعةٍ في إنشاء كنائسهم والتعبد فيها، واشتُهرت هذه الكنائس بأبنيتها الشامخة وقبابها العالية وساحاتها الواسعة، مما جعل بعض الخلفاء يتخذها مَلْجَأً للترويح عن النفس بعيدًا عن متاعب الحكم وشئون البلاد كما في مدينة “المنصور” التي كانت محفوفة بالديارات النصرانية التي يلجأ إليها الزائرون من غير النصارى:

قال العلَّامة أبو الفرج الأصبهاني في “الديارات” (ص: 45، ط. رياض الريِّس): [أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن صدقة، قال: خرجنا مع المأمون، فنزلنا الدير الأعلى بالموصل لطيبه ونزاهته، وجاء عيد “الشعانين”، فجلس المأمون في موضع منه حسن مشرف على دجلة والصحراء والبساتين، ويشاهد منه من يدخل الدير.. فرأى المأمون ذلك، فاستحسنه] اهـ.

وقال العلَّامة الشابشتي في “الديارات” (ص: 258، ط. دار الرائد العربي): [وهذا العمر بالأنبار، على الفرات، وهو عمر حسنٌ كبير، كثير القلايات والرهبان، وعليه سور محكم البناء، فهو كالحصن له، والجامع ملاصقه، ولا يخلو من المتنزهين والمتظرفين، وله ظاهرٌ حسنٌ ومنظرٌ عجيبٌ، سيما في أيام الربيع؛ لأنَّ صحاريه وسائر أراضيه تكون كالحُلَلِ؛ لكثرة طرائف زهره وفنون أنواره، ومن اجتاز بالأنبار من الخلفاء ومن دونهم ينزله مدة مقامه] اهـ.

ولم يكتف الولاة بمساعدة الأقباط على تجديد كنائسهم القديمة؛ بل شجعوهم على بناء كنائس جديدة؛ فمع مجيء جوهر الصقلي إلى مصر وإنشائه لمدينة القاهرة أُضطر إلى هدم دير بالقرب من المدينة الجديدة، فعمَّر ديرًا آخر عوضًا عن الدير الذي هدمه، وسُمي بدير “الخندق”.

قال العلَّامة المقريزي في “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” (4/ 433، ط. دار الكتب العلمية): [دير الخندق: ظاهر القاهرة من بحريها، عمَّره القائد جوهر عوضًا عن ديرٍ هدمَهُ في القاهرة، كان بالقرب من الجامع الأقمر حيث البئر التي تعرف الآن ببئر “العظمة”، وكانت إذ ذاك تعرف ببئر العظام من أجل أنه نقل عظامًا كانت بالدير وجعلها بدير الخندق] اهـ.

وعلى ذلك: فالدولة الإسلامية أتاحت لأهل الذمة من النصارى بناء الكنائس في المدن الجديدة، وكانت تشيَّد بموافقة الحكام وتحت أنظارهم، ومن المقرر في القواعد الفقهية أنَّ حكمَ الحاكمِ يرفع الخلاف؛ فإذا تخير الحاكمُ المسلم مذهبًا فقهيًّا رأى فيه المصلحة العامَة والأمن الاجتماعي فقد صار مُلزِمًا لكل مَن كان في ولايته، ولا يجوز له مخالفته وإلا عُدَّ ذلك افتياتًا على سلطان المسلمين وخروجًا على جماعتهم وكلمتهم، وفي ذلك من الفساد ما يضيع مصالح البلاد والعباد.

ولا يجوز معارضة ولي الأمر في ذلك؛ بل تجب طاعته بنص هذه الشبهة، إلَّا أنَّها اشتملت على خلطٍ للمفاهيم، وقلب للحقائق، وتكذيب للتاريخ؛ فليس هناك أجماع من العلماء على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد كما تقرره هذه الشبهة، وليس هناك أمرٌ بهدمها من ولي الأمر حتى تجب طاعته ولا تجوز معارضته في هدمها.

وإذا كانت الكنائس قد تعرضت في بعض الأحيان للهدم أو التخريب، فهذا الأمر مرتبط بأحوال شخصية كردودِ فعلٍ من بعض العوام لوقائع ما سُرعان ما كانت تنتهي آثارها وتتلاشى، أو انعكاسٍ لظروف سياسية خارجية؛ كما حدث من أهل مصر في العصر الإخشيدي حينما قام العامَّة بتخريب الكنائس لمَّا علموا بدخول البيزنطيون الشام عام (349هـ)، وأيضًا حينما ضربوا إحدى الكنائس في مصر القديمة لمَّا غزا الإمبراطور “نقفور” جزيرة “كريت” وضرب ما فيها من المساجد وقتل المسلمين وحاصرهم:

يقول العلَّامة يحيى بن سعيد الأنطاكي في “تاريخه” (ص: 443، ط. جروس برس، طرابلس): [وفي سنة تسع وأربعون وثلاثمائة حوصرت “أقريطش” –كريت- حاصرها نقفور الفقاس الدمستق، وفتحها بعد حصار عشرة أشهر، وقُتل فيها خلق كثير عظيم لا يحصى، وسبا جميع أهلها، ولم يسلم منهم إلاّ نفر يسير من الرجال الذي تعلّقوا في رؤوس الجبال.. وورد إلى مصر الخبر ليلة الجمعة، قبل عيد الشعانين بيومين، سنة خمسين وثلاثمائة، فوثبَ الخرافيش والرمادية والفواغ إلى كنيسة ميكائيل التي بقصر الشمع، فهدموا منها ونهبوا ما كان فيها، ونهبوا أيضًا كنيسة ماري تاودورس، وكنيستي النّسطوريّة، وكنيسة القبط التي تعرف بكنيسة البطرك، وكان على النصارى حزنٌ عظيمٌ] اهـ.

يقول المؤرخ محمد كُرْد علي في “خطط الشام” (6/ 10-12، ط. مكتبة النوري، دمشق): [وكان الداعي إلى ذلك ما وقع من اضطهاد المسلمين في الروم على الغالب فلم يجد ملوك الإسلام واسطة لتخفيف الشر الواقع على رعاياهم من أهل الإسلام إلا بالضغط على النصارى في ديارهم والتأثير في ملوك النصارى بضربهم في أكبادهم في كنائس هي مهوى قلوب أبنائهم في بيت المقدس.. وأهم ما نال الكنائس في الشام من الأذى، كان على عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي فإنه لم يبق في مملكته ديرًا ولا كنيسة إلا هدمها.. وعاد الحاكم بعد أن ضرب النصارى في كنائسهم في جميع أرجاء مملكته فأعطاهم عهداً كما كان يعطي الخلفاء العادلون ومنها هذا المنشور الذي أورده ابن بطريق: بسم الله الرحمن الرحيم: أمر أمير المؤمنين بكتب هذا المنشور لنيقيفور بطريرك بيت المقدس بما رآه من إجابة رغبته، وأطلق بغيته، من صيانته وحياطته، والذب عنه وعن أهل الذمة من نحلته، وتمكينهم من صلواتهم على رسومهم في افتراقهم واجتماعهم، وترك الاعتراض لمن يصلي منهم في عرصة الكنيسة المعروفة بالقيامة وخربتها، على اختلاف رأيه ومذهبه، ومفارقته في دينه وعقيدته، وإقامة ما يلزمه في حدود ديانته، وحفظ المواضع الباقية في قبضته، داخل البلد وخارجه والديارات وبيت لحم ولدّ، وما برسم هذه المواضع من الدور المنضوية إليها، والمنع من نقض المصلبات بها، والاعتراض لأحباسها المطلقة لها، ومن هدم جداراتها وسائر أبنيتها، إحسانًا من أمير المؤمنين إليهم، ودفع الأذى عنهم وعن كافتهم، وحفظًا لذمة الإسلام فيهم، فمن قرأه أو قُرئ عليه من الأولياء والولاة، ومتولي هذه النواحي وكافة الحماة، وسائر المتصوفين في الأعمال، والمستخدمين على سائر منازلهم، وتفاوت درجاتهم، واستمرار خدمتهم، أو تعاقب نظرهم، في هذا الوقت وما يليه، فليعلم ذلك من أمير المؤمنين ورسمه، ويعمل عليه وبحسبه، وليحذر من تعدى وحده ومخالفة حكمه، ويتجنب مباينة نصه ومجانبة شرحه، ولقرّ هذا المنشور في يده حجة لمودعه، يستعين بها على نيل طلبه، وإدراك بغيته، إن شاء الله تعالى. وكتب في جمادى الأخرى سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وفي أعلاه بخط الحاكم توقيع: الحمد لِله رب العالمين] اهـ.

وتُمثِّلُ هذه الأفعال استثناءً لما كان عليه حال الأُمة الإسلامية وحكومتها من التسامح والتعايش وتعزيز المواطنة بحماية غير المسلمين وحفظ دور عبادتهم ورعاية حقوقهم.

كما أن الأمر بتخريب دور العبادة أو هدمها مخالف؛ لما أمر به الشرع على سبيل الوجوب من المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهي: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهي المقاصد الشرعية الخمسة.

ومن الجليّ أن القول بهدم الكنائس تَكرُّ على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، ومنها حفظ الأديان.

وأما ما يُحتَجُّ به على منع بناء الكنائس في بلاد الإسلام من أنَّه لا يجوز اجتماع قبلتين في بلدٍ واحدٍ من بلاد الإسلام، وأن لا يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها؛ ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء هذه المعابد الكفرية؛ مِن مثل ما يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو: «لا تحدثوا كنيسة في الإسلام، ولا تجددوا ما ذهب منها»، أو: «لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة»، أو: «اهدموا الصوامع واهدموا البيع»، فكلها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا يُعمَل بمثلها في الأحكام، والصحيح منها محمول على منع بناء الكنائس في جزيرة العرب دون سواها من دول الإسلام، وحكاية الإجماع في ذلك مخالفٌ لمَا عليه عملُ المسلمين سلفًا وخلفًا كما سبق.

وما قيل في هذه الشبهة من أنَّ من يرتضي بناء الكنائس أو يعتقد أنَّ أهلها في عبادة فهو كافر مرتد خارج عن الإسلام، ويدخل تحت قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى..﴾ [محمد: 25-28].

فنقول: لا بُدَّ أن نفرق بين أمرين:

الأول: فقه الدولة في تحقيق مبدأ المواطنة والتكافل المجتمعي بين أصحاب الديانات، وحماية دور العبادة التي يقوم بها افراد الدولة.

الثاني: فقه الأفراد في المحافظة على المعتقدات والغَيرة على الدين ونحو ذلك مما يتعلق بحال الفرد تجاه دينه ومعتقده.

وأيضًا هناك فارقٌ بين تفسير النص الوارد بما يحتمله من معاني حول هذا المفهوم، وبين إمكانية تطبيق النص على واقع الناس وأحوالهم.

فالصحابة الكرام كانوا أعلم الناس بهذه النصوص، لكنهم وضعوا في اعتبارهم وترسَّخ في أذهانهم عند تطبيق هذه النصوص على واقعهم وأحوالهم عدَّة أُمور:

– أنهم مأمورون بعدم إكراه غير المسلمين على الدخول في الإسلام، وذلك بنص القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وقال تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]. وهذا الأمر يقتضي تركهم على دينهم وما يعبدون، ولا يعني هذا إقرار المسلمين على اعتقادهم وعبادتهم؛ فقد نصَّ الأصوليون على أنَّ ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسيحي يمشي إلى كنيسته وهو ينظر إليه؛ لا يُعدُّ إقرارًا منه صلى الله عليه وآله وسلم مع علمهِ بإنكار المسيحي لنبوَّته صلى الله عليه وآله وسلم.

– أنهم مأمورون بعدم الاعتداء على دور العبادات الخاصة بهم؛ بل بالمجاهدة في الدفاع عنها، حيث إنَّ الاعتداء على دور العبادات لغير المسلمين فيه نقض للعهد وإخفار لذمة المسلمين وتضييع لها؛ لأنهم مواطنون لهم حق المواطنة، وقد تعاقدوا مع المسلمين وتعاهدوا على التعايش معًا في الوطن بسلام وأمان، وهو الأمر الذي نهت عنه النصوص بل وأمرت بخلافه:

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» متفق عليه.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة”، قال: فأخرجها، فإذا فيها: «..وذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ؛ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لاَ يُقبَل مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْل» رواه ابن أبي شية في “المصنف”، وأحمد في “المسند”، والبخاري في “الصحيح”، وأبو داود في “السنن”، والترمذي في “السنن”، والنسائي في “السنن الكبرى”، وابن حبان في “الصحيح”، والطبراني في “الأوسط”، والحاكم في “المستدرك”، والبيهقي في “الكبرى” و”الصغرى”، والبغوي في “شرح السنن”.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذمة المسلمين»؛ أي: عهدهم، وقوله: «يسعى بها أدناهم»؛ أي: يتولى ذمتَهم أقلُّهم شأنًا أو عددًا؛ فإذا أعطى أحد المسلمين -فضلاً عن ولي أمرهم- عهدًا لم يكن لأحدٍ نقضُه، وقوله: «مَن أَخفر»؛ أي: نقض العهد، وقوله: «صرف ولا عدل»؛ أي: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” (4/ 86، ط. السلفية): [والمعنى: أن ذمة المسلمين سواءٌ؛ صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمَّن أحدٌ من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمةً لم يكن لأحد نقضُه؛ فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن المسلمين كنَفسٍ واحدة] اهـ.

الشبهة الثالثة:

صار من ضروريات الدين تحريمُ الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام؛ ومنه: تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة؛ يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما؛ لأنَّ تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأنَّ العبادات التي تؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، ولا يجوز اجتماع قبلتين في بلدٍ واحدٍ من بلاد الإسلام، ولا أن يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها؛ ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء هذه المعابد الكفرية. وقد قال شيخ الإسلام: “من اعتقد أنَّ زيارة أهلِ الذمة كنائسَهم قربةٌ إلى الله فهو مرتدٌّ، وإن جهل أنَّ ذلك محرم عُرِّف ذلك، فإن أصرَّ صار مرتدًّا” اهـ.

الجواب:

الإسلام دينُ التعايش، ومبادئه تدعو إلى السلام، ولا تُقِرُّ العنف، ولذلك لم يجبر أصحاب الديانات الأخرى على الدخول فيه، بل جعل ذلك باختيار الإنسان، في آيات كثيرة نص فيها الشرع على حرية الديانة؛ كقوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاه في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، وقوله سبحانه: ﴿وقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فلْيُؤْمِن ومَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، وقال جل شأنه: ﴿لَكُمْ دِينُكُم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].

أمر الإسلام أتباعه بترك الناس وما اختاروه من أديانهم، ولم يُجبِرْهم على الدخول في الإسلام قهرًا، وسمح لهم بممارسة طقوس أديانهم في دور عبادتهم، وضمن لهم من أجل ذلك سلامة دور العبادة، وأَوْلاها عناية خاصة؛ فحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها.

بل إن القرآن الكريم جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة –سواء أكانت للمسلمين أم لغيرهم- من الهدم وضمانًا لأمنها وسلامة أصحابها، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز ۞ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 40-41].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “الصوامع: التي تكون فيها الرهبان، والبِيَع: مساجد اليهود، و”صلوات”: كنائس النصارى، والمساجد: مساجد المسلمين” أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم في “التفسير”.

وما ورد في الشبهة: أنَّ من اعتقد أنَّ زيارة المسيحي للكنيسة تُعَدُّ قربة يتقرب بها إلى الله؛ فهو كافر أو مرتد.. إلى آخر ما جاء في هذه الشبهة؛ فنقول:

القضية هنا ليست في اعتقاد من يعتقد ذلك أو يرتضيه، وإنما القضية في أن هذه الدور أُنشئت بغرض العبادة، وذهابهم إليها إنَّما يكون من أجل العبادة.

قال مقاتل بن سليمان في “تفسيره” (2/ 385، ط. دار الكتب العلمية) عند تفسير قوله تعالى: ﴿..صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا﴾: [كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيراً في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عنها] اهـ.

فينبغي أن يتركَ الذمي وحاله في عبادته مع الله، والله سبحانه خالقنا وخالقه هو من يُحاسبنا جميعًا، ولم نسمع أنَّ أحدًا من المسلمين قال بأنَّ هذه العبادات قُربة إلى الله تعالى:

فعن سعيد بن المسيب: “أن أبا بكر رضي الله عنه لما بعث الجنود نحو الشام يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشُرَحْبيل بن حسَنَةَ، قال: لما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم حتى بلغ ثنية الوداع، فقالوا: يا خليفة رسول الله، أتمشي ونحن ركبان؟ فقال: “إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله” ثم جعل يوصيهم، فقال: “أوصيكم بتقوى الله، اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، فإن الله ناصر دينه، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تجبنوا، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون.. وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له..” أخرجه الطحاوي في “شرح مشكل الآثار”، والبيهقي في “السنن الكبرى”.

قال العارف بالله الحكيم الترمذي في “نوادر الأصول” (1/ 191-193، ط. دار المنهاج): [فالذين تركوا الدنيا وحبسوا أنفسهم في الصوامع واعتزلوا أمَرَ بترك التعرُّضِ لهم فلم يُطالبوا بجزية؛ لأنهم تَركُوا فتُرِكُوا] اهـ.

الشُبهة الرابعة:

من المعلوم أنَّ الأشياء التي ينتقض بها عهد الذمي: الامتناع من بذل الجزية، وعدم التزام أحكام الإسلام، وأن يُقاتل المسلمين منفردًا أو في الحرب، وأن يلتحق الذمي بدار الحرب مُقيمًا بها، وأن يتجسس على المسلمين وينقل أخبارهم، والزنا بامرأةٍ مسلمة، وأن يذكر الله تعالى أو رسوله أو كتبه بسوء.

وإذا انتقض عهد الذمي: حلَّ دمه وماله، وسار حربيًّا يُخير فيه الإمام بين القتل، أو الاسترقاق، أو المن بلا فدية، أو الفداء.

الجواب:

هذه الأمور -كما قلنا- متعلقة بكيان الدولة الإسلامية، ومبنية على الاستقرار والنظام العام، نظرًا لما طرأ على الدولة من متغيرات عالمية ودولية وإقليمية ومحلية، وقيام الدولة المدنية الحديثة على مفهوم المواطنة الذي أقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاهدة المدينة المنورة، ومبدأ المعاملة بالِمثْلِ بين الدول، كان ذلك آكد في تصور رجحان المصلحة.

وقد دعا الإسلام إلى التسامح والتعايش الديني مع جميع الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم، وانتماءاتهم وطوائفهم وأديانهم؛ حيثُ كانت الغاية الأساس من التنوع البشري والتعدد الإنساني هو التعارُف لا التناكر، والتكامل لا التصارع؛ كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه لو شاء لخلق عباده على ملة واحدة وسَنَنٍ واحد، ولكن جرت سنته في الخلق على التنوع والاختلاف، واقتضت حكمته استمرار ذلك حتى يرث الأرض ومن عليها؛ كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119]، وقال جل شأنه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99].

كما أخبر سبحانه أن هذا الاختلاف في الأديان يستوجب التعاون بين بني الإنسان، ويتطلب التنافس في حسن المعاملة وفعل الخير، وأن يظهر أهل كل دين جمال ما عندهم من القِيَم والأخلاق التي تدعو إليها الأديان، وأن الله هو الذي سيفصل يوم القيامة بين الجميع في أمر اختلافهم؛ فقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، وقال سبحانه: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48].

ولتحقيق ذلك وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم “الدستور الإسلامي”، وأسَّس من خلاله مفهوم “المواطنة” الذي يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى أي انتماء ديني أو عرقي أو مذهبي أو أي اعتبار آخر، وأقام به منظومة التعايش والتسامح بين الانتماءات القبلية والعرقية والدينية، وسُمِّي “بصحيفة المدينة”، أقرّ فيها الناس على أديانهم، وأنشأ بين المواطنين عقدًا اجتماعيًّا قوامه: التناصر، والتكافل، والمساواة، وحرية الاعتقاد، والتعايش السلمي، وغير ذلك.

واحترمت الشريعة الإسلامية الكتب السماوية السابقة، رغم ما نَعَتْه على أتباعها من تحريف الكلم عن مواضعه، وتكذيبهم للنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد غزوة خيبر كان في أثناء الغنائم صحائف متعدّدة من التوراة، فجاءت يهود تطلبها، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بدفعها إليهم؛ كما ذكره الإمام الدياربكري في “تاريخ الخميس في أحوال أنْفَسِ نَفِيس صلى الله عليه وآله وسلم” (2/ 55، ط. دار صادر)، والشيخ نور الدين الحلبي في السيرة الحلبية “إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون” (3/ 62، ط. دار الكتب العلمية). وهذه غاية ما تكون الإنسانية في احترام الشعور الديني للمخالف رغم عداوة يهود خيبر ونقضهم للعهود وخيانتهم للدولة؛ حيث كانوا قد حزبوا الأحزاب، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، واتصلوا بالمنافقين وغطفان وأعراب البادية، ووصلت بهم الخيانة العظمى إلى محاولتهم الآثمة لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون، معقبًا على ذلك، في كتابه “تاريخ اليهود في بلاد العرب” (ص: 170، ط. مطبعة الاعتماد): [ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية؛ مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان، ويحفظون له هذه اليد؛ حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أوروشليم وفتحوها سنة 70 ب. م. إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس؛ حيث أحرقوا أيضًا صحف التوراة. هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام] اهـ.

ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن اتخاذ مواطن التعايش والتعاملات الحياتية مواضع لفرض العقائد والإكراه عليها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: بينما يهودي يعرض سلعته، أُعطي بها شيئًا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم وجهه، وقال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمةً وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي، فقال: «لم لطمت وجهه» فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى رئي في وجهه، ثم قال: «لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي» متفق عليه.

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة حسن المعاشرة والتعامل مع أهل الكتاب؛ يعطيهم العطايا، ويهدي إليهم، ويعود مرضاهم، ويتفقد محتاجيهم، ويقوم لجنائزهم، ويحضر ولائمهم، حتى دعَتْه يهوديةٌ مع أصحابه لطعامٍ ووضعت له السُّم في الشاة، فلم يعاقبها، وكان يقترض منهم؛ حتى توفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهودي في المدينة:

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: مرَّ عمر بن الخطَّاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على يهودي وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصان فقال اليهودي: يا أبا القاسم اكسني، فخَلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل القميصين فكساه، فقلت: يا رسول الله، لو كسوتَه الذي هو دون فقال: «لَيْسَ تَدْرِي يَا عُمَرُ أَنَّ دِينَنَا الْحَنَفِيَّةُ السَّمْحَةُ لَا شُحَّ فِيهَا، وَكَسَوْتُهُ أَفْضَلَ الْقَمِيصَيْنِ لِيَكُونَ أَرْغَبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ» أخرجه أبو نعيم في “حلية الأولياء”.

وعن أنس رضي الله عنه، أن غلاما يهوديًّا كان يضع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وَضوءَه ويناوله نعليه، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل عليه، وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا فُلَانُ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، فنظر إلى أبيه، فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه: أَطِعْ أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنَ النَّارِ» رواه الإمام أحمد في “المسند” واللفظ له، والإمام البخاري في “الصحيح”، وغيرهما.

وعلى ذلك: ففكرة بذل الجزية من أهل الكتاب، والتزامهم بأحكام الإسلام، أصبحت معدومة تمامًا في ظل الأخذ بفقه الدولة الإسلامية الحديثة وتحت مفهوم مبدأ المواطنة والتعايش بين أبناء الدولة على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.

فالمواطنة مبدأ إسلامي أقرته الشريعة الإسلامية، وهي في صورتها المتفق عليها معمول بها في دساتير العالم الإسلامي وقوانينه، ومنها الدستور المصري الذي ينص في المادة الثانية منه على مرجعية الشريعة الإسلامية، وقد رسخ الإسلام مبدأ المواطنة منذ أربعة عشر قرنًا؛ وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وثيقة المدينة المنورة التي نصَّت على التعايش والمشاركة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد دون النظر إلى الانتماء الديني أو العرقي أو المذهبي أو أي اعتبارات أخرى، ومن ثَمَّ فهذا العقد من العقود والعهود المشروعة التي يجب الوفاء بها.

ولا يجوز بحالٍ من الأحوال القول بإهدار دم الذمي أو أنه يُخير بين القتل أو الاسترقاق.. ونحوه مما تقول به الجماعات المتطرفة، وليس هذا من الدين في شيء.

الشُبهةُ الخامسة:

ذكر البعضُ أنَّ البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمُون عنوةً وتملكوا أرضها وساكنيها لا يجوز إحداث كنائس فيها، ويجب هدم ما استحدث منها بعد الفتح؛ لأنَّ هذه الكنائس صارت ملكًا للمسلمين بعد أن فتحوا هذه البلاد عنوة.

وأمَّا البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صُلْحًا: فهي على نوعين:

الأول: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها، أو يصالحهم على مالٍ يبذلونه وهي الهُدنة؛ فلا يُمنعون من إحداث ما يختارونه فيها؛ لأنَّ الدار لهم.

الثاني: أن يُصالحهم على أنَّ الدار للمُسلمين، ويؤدون الجزية إلينا، فحكمها ما اتُّفقَ عليه في الصلح، وعند القدرة يكون الحكم ألَّا تُهدم كنائسهم التي بنوها قبل الصلح، ويُمنعون من إحداث كنائس بعد ذلك.

الجواب:

المتأمل في مذاهب الفقهاء وأقوالهم يرى أن ما عللوا به قولهم بالإباحة أو المنع يدور على المصلحة العامة وضبط النظام العام واستقرار النسيج الاجتماعي:

فقد فرق الفقهاء بين ما فُتِح من البلاد صلحًا فأجازوا فيها بناء الكنائس، وما فتح منها عنوةً فأجازوا الإحداث بالعهد واختلفوا عند عدمه؛ وذلك لأنَّ الصلح جنوح إلى السِّلْم واستقرار الأحوال من الطرفين، وفي هذا علامة على المسالمة الدينية لأهل الصلح وقابليتهم لأن يصيروا من رعايا الدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فكان الإقرار ببقائهم على دينهم مقتضيًّا إباحة إحداث الكنائس لهم، أما العنوة ففيها رفض للصلح وخروج على النظام وجنوح إلى القتال والعدوان، وكان هذا في ظل الصراعات الدينية علامة على التعصب الديني لأهل العنوة، وفي السماح لهم بإحداث الكنائس إضعاف للدولة الإسلامية؛ لأنها قد تتخذ موضعًا للتأليب أو التدبير ضد الإسلام وأهله.

فإذا زال الخوف من عدوان أهل العنوة وتأليبهم، وحصل العهد بينهم وبين المسلمين على إحداث الكنائس جاز ذلك عند كثير من الفقهاء:

يقول العلامة المؤرخ شهاب الدين أحمد بن خالد السلاوي في كتابه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” (3/ 185، ط. دار الكتاب): [أفتى علماء الأندلس في القرن الخامس بالإذن للنصارى في إحداث الكنائس بأرض العنوة وبما اختطه المسلمون من الأمصار مع أن الموجود في كتب السلف هو المنع؛ وما ذلك إلا لأنَّ الأحكام المرتبة على الأعراف تختلف باختلاف تلك الأعراف] اهـ.

ويقول الإمام مالك بنُ أنسٍ في “المدونة” (3/ 435-436، ط. دار الكتب العلمية): [أرى أن يمنعوا من أن يتخذوا في بلاد الإسلام كنيسة إلا أن يكون لهم عهد فيحملون على عهدهم. وقال غيره: كل بلاد افتتحت عنوة وأقروا فيها وقفت الأرض لأعطيات المسلمين ونوائبهم فلا يمنعون من كنائسهم التي في قراهم التي أقروا فيها ولا من أن يتخذوا فيها كنائس; لأنهم أقروا فيها على ذمتهم وعلى ما يجوز لأهل الذمة فعله] اهـ.

وقال العلَّامة خليل المالكي في “مختصره” (ص: 92، ط. دار الحديث): [وَلِلْعَنَوِيِّ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ إنْ شَرَطَ وَإِلَّا فَلَا؛ كرم المنهدم، وللصلحي الإحداث وبيع عرصتها أو حائط لا ببلد الإسلام إلا لمفسدة أعظم] اهـ.

وقال العلَّامة الشيخ عليش المالكي في “منح الجليل” (3/ 222، ط. دار الفكر): [وما اختطه المسلمون عند فتحهم وسكنوا معهم فيه كالفسطاط والبصرة والكوفة وإفريقية وشبهها من مدائن الشام فليس لهم إحداث ذلك فيها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى به. وقال غيره: كل بلد افتتح عنوة وأقروا فيه ووقفت أرضه لنوائب المسلمين وإعطاءاتهم فلا يمنعون من كنائسهم التي فيها ولا أن يحدثوا فيها كنائس. اهـ. أبو الحسن. أبو محمد صالح إن شرطوا ذلك في أرض العنوة اتفق ابن القاسم وغيره أن لهم ذلك، وإن لم يكن شرط فاختلف ابن القاسم والغير فابن القاسم جذبها لأرض الإسلام، وغيره جذبها لأرض الصلح اهـ. وهكذا في ابن عرفة وغيره قاله الرماصي.

ونص ابن عرفة: وفي جواز إحداث ذوي الذمة الكنائس ببلد العنوة المقر بها أهلها وفيما اختطه المسلمون فسكنوه معهم وتركها إن كانت ثالثها تترك ولا تحدث للخمي عن غير ابن القاسم، وعن ابن الماجشون قائلًا: ولو كانوا منعزلين عن بلاد الإسلام، وابن القاسم قائلًا: إلا أن يكونوا أعطوا ذلك اهـ] اهـ.

وقال الإمام الشافعي في “الأم” (4/ 218): [فإن كانوا فتحوه على صلحٍ بينهم وبين أهل الذمة من ترك إظهار الخنازير والخمر وإحداث الكنائس فيما ملكوا؛ لم يكن له منعهم من ذلك، وإظهار الشرك أكثر منه] اهـ.

وقال العلَّامة الشربيني الشافعي في “مغني المحتاج” (6/ 77، ط. دار الكتب العلمية): [تنبيه: قوله: (وإبقاء الكنائس) يقتضي منعهم من إحداثها، وبه صرح الماوردي: والذي في “الشرح” و”الروضة” عن الروياني وغيره أنهم إذا صولحوا على إحداثها جاز أيضًا، ولم يذكرا خلافه. قال الزركشي: وهو محمولٌ على ما إذا دعت إليه ضرورة، وإلا فلا وجه له اهـ.

ومقتضى التعليل: الجواز مطلقًا وهو الظاهر، والتعبير بالجواز المراد به عدم المنع؛ إذ الجواز حكم شرعي ولم يرد الشرع بجواز ذلك، نبه عليه السبكي، (وإن) فتح البلد صلحًا بشرط الأرض لنا و(أطلق) الصلح فلم يذكر فيه إبقاء الكنائس ولا عدمه: (فالأصح المنع) من إبقائها فيُهدم ما فيها من الكنائس؛ لأن إطلاق اللفظ يقتضي ضرورة جميع البلد لنا، والثاني: لا، وهي مستثناة بقرينة الحال لحاجتهم إليها في عبادتهم] اهـ.

وعلى ذلك: فلابُدَّ أن يُعلمَ أنَّ الحكم على بلد ما بكونها بلدُ صلحٍ أو عنوة ليس حكمًا أبديًّا بل هو حالة ظرفية، يجوز للإمام أن يغيرها حسب الظروف التي تقتضيها طبيعة العلاقة بين أهل البلد وبين المسلمين، فيجوز له أن يعامل أهل العنوة معاملة أهل الصلح فيدخلهم في ذمة المسلمين إذا رأى في ذلك المصلحة؛ كما فعله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع بعض القرى التي فُتِحَتْ عنوةً بعد أن قاتلت المسلمين:

قال الإمام عبد الرحمن بن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب” (ص: 107): [كانت مصر صلحًا.. إلا الإسكندرية، فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى مَن وَلِيَهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. وقد كانت بعض قرى مصر -كما حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب- قاتلت، فسبوا منها قرية يقال لها بلهيب، وقرية يقال لها (الخيس)، وقرية يقال لها (سلطيس)، فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها، فردّهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قراهم، وصيّرهم وجماعة القبط أهل ذمّة] اهـ.

وقد أناط الفقهاء جواز بناء الكنائس لأهل الكتاب بالمصلحة الراجحة؛ فجعلوا للحاكم وجماعة المسلمين الحق في السماح بإحداث الكنائس حتى فيما اختطه المسلمون ومصَّروه إذا كانت مصلحة ذلك أعظم من مفسدته:

قال العلامة أبو العباس بن زكري التلمساني -كما في “المعيار المعرب” (2/ 222)-: [ونقل الشيخ أبو الحسن عن الشيوخ جواز الإذن للإمام في الإحداث إذا كانت مصلحته أعظم من مفسدته.. ومما يحتمل: إذنُ جماعةِ المسلمين للذميين في الإحداث، وهي قائمة مقام الإمام في الموضع الذي لا إمام فيه.. أو تكون الأرض مختطة وأذنت الجماعة لمصلحة في الإحداث هي أرجح من المفسدة، ويصير ذلك كحكمٍ مِن حاكمٍ في محل الخلاف فيرفعه] اهـ.

وقال العلامة الشيخ عليش المالكي في “منح الجليل” (3/ 223): [(لا) يجوز للصلحي ولا للعنوي إحداث كنيسة (ببلد الإسلام) التي نقلوا إليها أو التي انفرد باختطاطها المسلمون في كل حال (إلا لـ) خوف ترتيب (مفسدة أعظم) من الإحداث على عدمه فيمكنون منه ارتكابًا لأخف الضررين] اهـ.

ولا يخفى أن سماح الدولة الإسلامية لرعاياها ومواطنيها من أهل الكتاب ببناء الكنائس ودور العبادة عند حاجتهم لذلك هو المصلحة الراجحة التي دلَّت عليها عمومات النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وأكدها عمل المسلمين عبر الأعصار والأمصار، وأيدتها المقاصد الكلية ومرامي الشريعة.

هذا بالنسبة لبناء الكنائس في عموم بلاد المسلمين غير جزيرة العرب.

أما بالنسبة لخصوص بلاد مصر فقد سبق النقل عن إمامَيْ أهل مصر وعالِمَيْها الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة أن عامة كنائس مصر إنما بُنِيَتْ في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين.

وقد فتحت مصر صلحًا، وهذا يجعلها خاضعة لأحكام الصلح التي أجاز فيها كثير من الفقهاء إحداث الكنائس عند الحاجة لذلك إذا سمح ولي الأمر بذلك.

وحتى على قول مَن قال مِن المؤرخين إن مصر فتحت عنوة فإن عقد المواطنة الذي يقره الدستور المصري في ظل الدولة الإسلامية يقوم مقام العهد الذي أجاز مِن خلاله الفقهاء السماح ببناء الكنائس عند الحاجة إليها وفق اللوائح والقوانين والمواد المنظمة لذلك.

وقد نص الفقهاء على أنه إذا اختُلِفَ في أرضٍ: هل فتحت صلحًا أم عنوة: فإنها تحمل على كونها أرض صلح. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي في “شرح السير الكبير” (1/ 1550-1551، ط. الشركة الشرقية): [فإن كانت لهم كنيسة قديمة في مصر من أمصار المسلمين فأراد المسلمون منعهم من الصلاة فيها فقالوا: نحن قوم من أهل الذمة صالحنا على بلادنا، وقال المسلمون: بل أخذنا بلادكم عنوة ثم جعلتم ذمة، وهو أمر قد تطاول فلم يدر كيف كان، فإن الإمام ينظر في ذلك، هل يجد فيه أثرًا عند الفقهاء؟ ويسأل أصحاب الأخبار كيف كان أصل هذه الأرض؟ فإن وجد فيه أثرا عمل به.. فإن لم يوجد في يد الفقهاء أثر في ذلك أو كانت الآثار فيه مختلفة، فإن الإمام يجعلها أرض صلح] اهـ.

لا يقال: الخلاف إنما هو فيما فُتِحَ صلحًا أو عنوة، وهو يجري فيما فتحه المسلمون من أرض مصر دون ما مصَّروه واختطوه مِن المدن الحديثة التي طرأت بعد الفتح الإسلامي والتي نص جماعة من الفقهاء على أن الخلاف لا يجري فيها وادُّعِيَ أن الإجماع قائم على المنع فيها.

لأنا نقول: هذا التفريق حل محلَّه الالتزام بعقد المواطنة بين أبناء الوطن الواحد؛ فصارت المدن التي مصَّرها المسلمون داخلة تحت الدستور العام للدولة الإسلامية الذي أعطى المواطنين المسيحيين حق بناء دور العبادة وفق اللوائح والمواد القانونية المنظمة لذلك، ودعوى الإجماع –التي ادَّعوها- منقوضة بما قاله إماما أهل مصر الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أن عامة كنائس مصر إنما بُنِيَت في الإسلام كما سبق النقل عنهما فيما مضى، ومنقوضة أيضًا بما سبق نقله عن الفقهاء من جواز إحداث الكنائس في الأمصار التي مصَّرها المسلمون إذا ارتأى الحاكم المصلحة في ذلك.

وقد وصَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر وصيةً خاصةً؛ فروى الطبراني في “المعجم الكبير” عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى عند وفاته فقال: «اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ؛ فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ»، قال الحافظ الهيثمي: “ورجاله رجال الصحيح”.

وروى أبو يعلى في “مسنده” وابن حبان في “صحيحه” أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال: «اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُمْ قُوَّةٌ لَكُمْ، وَبَلَاغٌ إِلَى عَدُوِّكُمْ بِإِذْنِ اللهِ» يعني قِبط مصر. قال الحافظ الهيثمي: “رجاله رجال الصحيح”.

وروى ابن سعد في “الطبقات الكبرى” -كما في “كنز العمال” للمتقي الهندي (5/ 760، ط. مؤسسة الرسالة)- عن موسى بن جبير، عن شيوخ من أهل المدينة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى واليه على مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه: “واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ يريد: أن يقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم وأوصى بالقِبط فقال: «استَوْصوا بالقِبْطِ خيرًا؛ فإنّ لهم ذِمّةً ورَحِمًا»، ورَحِمُهم: أن أمّ إسماعيل عليه السلام منهم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن ظَلَمَ مُعاهَدًا أو كلَّفه فوق طاقته فأنا خصمُه يومَ القيامة»، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك خصمًا؛ فإنه مَن خاصمه خَصَمَه”.

والناظر في التاريخ يرى مصداق خبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث رحب أقباط مصر بالمسلمين الفاتحين وفتحوا لهم صدورهم على الرغم مِن أنَّ حُكّامهم من الرومان كانوا نصارى مثلهم، ولكنهم فضلوا العيش تحت مظلة الإسلام وعاشوا مع المسلمين في أمان وسلام، وصار قِبط مصر عدة وأعوانًا في سبيل الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لتصنع مصر بذلك أعمق تجربة تاريخية ناجحة من التعايش والمشاركة في الوطن الواحد بين أصحاب الأديان المختلفة.

وعلى ذلك: فالتفرقة بين البلاد التي فُتحت عُنوةً والبلاد التي فُتحت صُلحًا ليست موجودة الآن في ظل الدستور العام للدولة الإسلامية؛ حيث حل محلَّها الالتزام بعقد المواطنة بين أبناء الوطن الواحد والذي يُعطى المواطنين المسيحيين حق بناء دور العبادة وفق اللوائح والمواد القانونية المنظمة لذلك.

الشبهة السادسة:

حكم بناء ما تهدَّمَ من الكنائس أو ترميمها: على ثلاثة أقوال:

الأول: المنع من بناء ما انهدم وترميم ما تلف.

الثاني: المنع من بناء ما انهدم، وجواز ترميم ما تلف.

الثالث: إباحة الأمرين.

فالرجاء التفضل بالاطلاع والتوجيه بما ترونه سيادتكم نحو الإفادة بالفتوى الشرعية الصحيحة في هذا الشأن حتى يمكن نشرها بين أهالي القرى؛ تصحيحًا للمفاهيم ومنعًا للشبهات.

الجواب:

المسلمون مكلفون شرعًا بتحقيق الأمان لأهل الكتاب في أداء عباداتهم تحت مظلة الحكم الإسلامي، وهذا كما يقتضي إبقاء الكنائس ودور العبادة على حالها من غير تعرض لها بهدمٍ أو تخريب، فإنه يقتضي أيضًا جواز السماح لهم بإعادتها وترميمها إذا انهدمت أو تصدعت أو احتاجت للترميم. وعلى ذلك جماهير الفقهاء، وهو المعتمد عند المذاهب الفقهية الأربعة:

قال العلامة الزيلعي الحنفي في “تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق” (3/ 280، ط. المطبعة الكبرى الأميرية، بولاق): [(ويعاد المنهدم من الكنائس والبيع القديمة)؛ لأنه جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا بترك الكنائس في أمصار المسلمين، ولا يقوم البناء دائمًا، فكان دليلًا على جواز الإعادة، ولأن الإمام لما أقرَّهم عَهِدَ إليهم الإعادة؛ لأن الأبنية لا تبقى دائمًا] اهـ.

وقال العلّامة الدسوقي المالكي في “حاشيته على الشرح الكبير” لسيدي أبي البركات الدردير (2/ 204، ط. دار الفكر): [(قوله: فيُمْنَع مِن الرَّمِّ مُطلَقًا) في “بن” (أي: العلامة محمد البناني محشي الشيخ عبد الباقي): ما ذكره مِن مَنْعِ ترميم المنهدِم -وإن كان ظاهرَ المصنف- غيرُ صحيح؛ لتصريح أبي الحسن في العنوي بجواز رَمِّ المنهدم، وظاهره مطلَقًا؛ شرَطَ ذلك أم لا، وذلك لأن “المدونة” قالت: ليس لهم أن يُحدِثُوا الكنائس في بلاد العُنْوَة؛ لأنها فَيْءٌ، ولا تُورَث عنهم، فقال أبو الحسن: (قوله: ليس لهم الإحداث في بلد العنوة) مفهومُه: أن لهم أن يَرُمُّوا ما كان قبل ذلك، ويجوز الترميم للصُّلْحِيِّ على قول ابن القاسم؛ خلافًا لمن قال يُمْنَعُون مِن الترميم إلا بشرط، فتبيَّن أنَّ للصُّلْحِيِّ الإحداثَ ورَمَّ المُنْهدِم مُطلَقًا؛ شَرَطَ ذلك أم لا] اهـ.

وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجُوَيْنيُّ الشافعي في كتابه “نهاية المطلب في دراية المذهب” (18/ 50، ط. دار المنهاج): [قال الأصحاب: إذا استرمّت الكنائس فلا يُمنَعُون مِن مرمّتها؛ فإنهم لو مُنِعُوا مِن ذلك لتهدمت الكنائس] اهـ.

وقال العلامة الخطيب الشربيني في “مغني المحتاج” (6/ 78، ط. دار الكتب العلمية): [حيث جوَّزنا أيضًا الكنائسَ فلا منع مِن ترميمها إذا استهدمت؛ لأنها مُبْقَاةٌ، وهل يجب إخفاء العمارة؟ وجهان: أصحهما: لا، ولا يُمنَعُون مِن تَطْيينها مِن داخل وخارج، وتجوز إعادة الجدران الساقطة، وإذا انهدمت الكنيسة المُبْقَاةُ فلا يُمْنَعُون مِن إعادتها على الأصح في “الشرح” و”الروضة”] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (9/ 355-356، ط. مكتبة القاهرة): [ولهم رَمُّ ما تشعَّثَ منها، وإصلاحُها؛ لأنّ المنعَ مِن ذلك يُفضي إلى خرابها وذهابها، فجرى مَجرَى هدمِها. وإن وقعت كلُّها لم يَجُز بناؤها، وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وعن أحمد: أنه يجوز، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناءَ بعضها إذا انهدم ورمَّ شعَثها، ولأن استدامتها جائزة، وبناؤها كاستدامتها] اهـ.

وعلى ذلك: فترميم الكنيسة في بلاد المسلمين له اعتباران:

الأول: بالنظر للإذن الشرعي في قيامها والسماح لأهل الكتاب بممارسة شعائرهم فيها.

والثاني: بالنظر إلى مخالفة هذه الشعائر لدين الإسلام وتحريم فعلها.

والجهتان منفكَّتان؛ فكما أنَّ المسلم يعتقد في دينه حرمةَ ما يفعلونه مِن شعائرهم فيها، فهو أيضًا بالنسبة له عمارة للبلاد ووسيلة إلى الحفاظ على الدين وتطبيق شرع الله الذي كفل لأهل الكتاب ممارسة شعائرهم في كنائسهم بحرية وأمان في ظل الدولة الإسلامية؛ فقد سمح الإسلام لهم بالإبقاء على كنائسهم بل وأجاز سماح الدولة لهم باستحداث ما يحتاجونه مِن معابد لإقامة عباداتهم فيها وممارسة شعائرهم وطقوسهم، وحرم الاعتداء بكافة أشكاله عليها؛ كما سمح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنصارى نجران بالصلاة وإقامة طقوسهم في مسجده الشريف -كما بيَّنا-.

وفي هذا دليل على أن السماح لغير المسلمين بممارسة شعائرهم لا يقتضي الرضا بها، وأن إقرارهم عليها لا يعني الإقرار بها.

وقد راعت الشريعةُ قُصُودَ المكلفين ونياتِهم في التعامل مع غير المسلمين؛ ونص الفقهاء على اعتبار ذلك وتأثيره في الحل والحرمة؛ فذهب القاضي أبو يعلى بن الفرّاء (ت: 458هـ) شيخ الحنابلة في عصره إلى صحة وصية المسلم للكنيسة إن لم يقصد إعظامَها بذلك؛ معلِّلًا بأن النفع فيها عائدٌ إلى أهل الذمة، والوصية لهم صحيحة، قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (6/ 219): [وذكر القاضي أنه لو أوصى لحصر البِيَع وقناديلها، وما شاكل ذلك، ولم يقصد إعظامها بذلك، صحت الوصية؛ لأن الوصية لأهل الذمة، فإن النفع يعود إليهم، والوصية لهم صحيحة] اهـ.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فبناء الكنائس جائزٌ شرعًا وفقًا للشريعة الإسلامية إذا احتاج أصحابها إلى ذلك في عباداتهم وشعائرهم التي أقرهم الإسلام على البقاء عليها، حيث إنَّ الشرع الشريف جعل تغلُّب المسلمين وجهادهم لرفع الطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببًا في حفظ دور العبادة، وليست هذه الدور معابد كفرية يُعبد فيها غير الله، ولم يَرِدْ المنعُ من ذلك في شيء مِن النصوص الصحيحة الصريحة، كما يجوز إعادة بناء ما تهدَّم وتلف منها وترميمه وإصلاحه، رعايةً للمصلحة العامَّة وضبط النظام العام والاستقرار المجتمعي، ولا يُعدُّ من يقول ذلك كافرًا أو مُرتدًا أو جاهلًا.. إلى آخر ما يدَّعيه المنكرون، وهذا ما عليه جماهير العلماء واستقرت عليه الأُمَّة سلفًا وخلفًا.

وفكرة بذل الجزية من أهل الكتاب والتزامهم بأحكام الإسلام، أصبحت معدومة تمامًا في ظل الدولة الإسلامية الحديثة تحت مفهوم المواطنة والتعايش والتكافل المجتمعي بين أبناء الدولة على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم.

ويحرم القول بإهدار دم الذمي، أو القول بتخييره بين القتل أو الاسترقاق، أو دفع الجزية، أو الفدية، أو نحوه؛ حيث إنَّ الامر ليس منوطًا بالأشخاص العاديين في الدولة؛ بل هي أمورٌ مُتعلقة بولي الأمر ينظر فيها إلى المصلحة العامة بين أبناء الوطن الواحد، فيُعطى المواطنين المسيحيين حق بناء دور العبادة وممارسة حياتهم الطبيعية بالاستمتاع بما لهم من الحقوق والالتزام بما عليهم من الواجبات وفق اللوائح والمواد القانونية المنظمة لذلك.

والله سبحانه وتعالى أعلم

اظهر المزيد

جاسمينا المصري

صحفية وباحثة وكاتبة محتوى.. مصرية .. شاركت في تحرير وإدارة العديد من المواقع المصرية والعربية من بينها بلاحدود والضحى والمنصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى