مساحة للاختلاف

الدكتور يحيى الجمل يكتب: دفاعًا عن حق مخاطبة السلطات العامة

هذا المقال ليس هجوما على أحد وليس أيضا دفاعا عن أحد، فكل أحد يملك حق الدفاع عن نفسه إذا أراد. ولكننى عندما قرأت مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام بعنوان «دفاعا عن الدستور» يوم السبت الماضى ــ الرابع والعشرين من أكتوبر 2009 ــ أحسست برغبة قوية فى التعليق عليه لتعلقه بقضية الدستور من ناحية، وقضية الحق فى مخاطبة السلطات العامة لكل مواطن من ناحية أخرى.

مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد هو محاولة لنسبة أمور للأستاذ محمد حسنين هيكل لم أفهمها ــ على قدر فهمى المحدود ــ من حديثه مع المصرى اليوم، الذى قرأته بدقه وعناية فى الأسبوع الماضى..

ومرة ثانية ليس هذا المقال دفاعا عن الأستاذ هيكل، فهو أقدر الناس على الدفاع عن نفسه إن أراد، وأنا واثق أننى لو سألته أو استأذنته فى كتابة هذا المقال فإنه كان سيرفض رفضا قاطعا، ولذلك لم أتصل به رغم رغبتى فى ذلك.

وما أظن أحدا من الذين قرأوا حديث «هيكل» فهموا منه أن الرجل دعا إلى ثورة على الدستور وعلى مؤسسات الدولة، فقد اقترح مجلسا فوق كل المؤسسات التشريعية فى البلاد تحت اسم «مجلس أمناء الدولة والدستور»..

سأله الأستاذ/ مجدى الجلاد وماذا سيفعل هذا المجلس فأجاب الأستاذ/ هيكل بوضوح: «ستكون مهمته التفكير».

الأستاذ هيكل اقترح مجموعة أسماء لمواطنين مصريين أغلبهم من الذين ردد الرأى العام أسماءهم بتلقائية للترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، وكان ذلك عن طريق الصحافة والفضائيات فى أثناء فترة الانتخابات الرئاسية عام 2005. ويبدو أن الأستاذ هيكل رأى فى هذا التوجه للرأى العام أن هؤلاء الأشخاص محل تقدير وقبول من غالبية المصريين.

هذا عن معيار الاختيار ــ على قدر فهمى ــ أما عن مهمة هذا المجلس المقترح، فإننى بعد أن قرأت مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد حاولت أن أجد عبارة واحدة مما قاله هيكل فى حديثه مع مجدى الجلاد فى المصرى اليوم يفهم منها هذا المعنى من قريب أو بعيد.. لم أجد شيئا من ذلك أو ما يقترب منه.

الأمر كله «اقتراح» يتصور صاحبه أنه يساعد به على حل بعض أزمات مصر عن طريق تفكير مجموعة من المصريين محل تقدير غالبية الناس، والذين يتمتعون بكفاءات متعددة ومتميزة، وهذه المجموعة ستفكر وتدرس وتقترح وتتقدم بذلك كله إلى النظام لكى يبدأ فى تحويل المقترحات ــ إذا قبلها ــ إلى آليات وخطوات للتغيير الدستورى، وفقا لما ينص عليه الدستور بطبيعة الحال.

الأستاذ هيكل لم يقترح ــ وليس فى طبيعيته أن يقترح ــ ثورة دستورية تطيح بالدستور وبالنظام القائم وتأتى بدستور جديد ونظام جديد، هو يهدف من اقتراحه إلى تغيير الدستور وإعداد مشروع عقد اجتماعى، ولكن عبر الوسائل السلمية والدستورية. هذا ما فهمته ــ على قدر فهمى المحدود ــ من حديث الأستاذ هيكل فى المصرى اليوم.

ومن حق الأستاذ هيكل كما هو من حق كل مواطن دستوريا أن يخاطب السلطات العامة وأن يخاطب رئيس الجمهورية وكل مؤسسات الدولة التى يفترض ــ افتراضا ــ أنها وجدت من أجله، «من أجلك أنت» على حد تعبير الحزب الوطنى فى شعاره لمؤتمره القادم.. قل معى: «يا ريت».

صحيح الأستاذ هيكل يرى مع الغالبية الساحقة من المصريين أن مصر تمر بأزمات رهيبة فى كل مجال، ويحاول أن يجد سبيلا لتخفيف أو علاج بعض هذه الأزمات، ولكن يبدو أن الدكتور عبدالمنعم سعيد يرى أن أحوال مصر «ميت فل وعشرة» على حد تعبير الدكتورة نادية رضوان فى ديوانها من الشعر العامى الذى سبق أن كتبت عنه.

هذا من ناحية حق الأستاذ هيكل وحق كل مواطن حتى ولو لم يكن فى قدر وقامة وقيمة هيكل فى أن يخاطب السلطات العامة وأن يقترح عليها ما يظن أنه خير لمصر.

أعود إلى الجانب الدستورى من مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد.. يا سيدى لم يقل أحد ممن يعتد برأيهم من أهل «الصناعة الدستورية» أن الدستور الحالى يجب أن ينسف ويلقى به فى «اليم»، أو أننا نرى أن يوضع دستور جديد منبت الصلة بحياتنا الدستورية منذ بدأت.

قلت ويقول كثيرون إن الدستور الحالى فى حاجة إلى مراجعة شاملة وإن كل التعديلات التى أدخلت عليه منذ عام 1981 كانت تعديلات إلى الوراء. فالأصل فى الدساتير أنها تمكن الحرية فى مواجهة السلطة. إنها تقيد السلطة من أجل توسيع مساحة الحرية. هذا هو الأصل فى أى دستور يستحق هذا الاسم.

وهذه بديهية لا يختلف حولها أحد من أهل الصنعة. ولكن كل التعديلات التى جاءت منذ 1981 كان مضمونها عكس ذلك تماما: تثبيت السلطة، وتأبيدها، والتضييق على الحرية. حتى وإن كان ظاهر بعض النصوص غير ذلك أو حتى إن جاز ذلك على غير «أهل الصنعة».

تعديل 1981 جوهره إطلاق مدة بقاء رئيس الجمهورية لكى نحول دون أى صورة من صور تداول السلطة.. ذلك على حين أن وجود رئيس جمهورية سابق يسير مع الناس فى الطرقات هى ضمانة أساسية من ضمانات الديموقراطية.

وتعديلات 2005 كان أساسها تعديل المادة 76 لكى تسمح فى الظاهر بانتخاب رئيس الجمهورية من متعددين، بدلا من الطريقة الكئيبة التى أخذنا بها منذ دستور 1956، وهى طريقة الاستفتاءات. وكلنا يعرف كيف تتم الاستفتاءات. وتقديرى أن الدكتور عبدالمنعم سعيد يعرف ما نعرفه جميعا عن هذه الاستفتاءات، وما يقترب منها من انتخابات، وكيف أنها تظهر إرادة الشعب!؟

المادة 76 مادة شائهة مشوهة وليس لها مثيل فى دساتير العالم كله. وقد وصفتها بأنها خطيئة دستورية، وقلت إن الذين صاغوا مشروعها أهانوا مصر، أهانهم الله.

والأستاذ هيكل وكثيرون آخرون يرون ضرورة مراجعة الدستور، لا لكى نقطع صلتنا بماضينا الدستورى أو بالمبادئ الدستورية العامة. عند مراجعة الدستور لا بد من الاهتداء بتجارب العالم خاصة الدول التى تحولت حديثا إلى الديمقراطية. ولا بد من الاستفادة من دستور 1923، ومن مشروع دستور 1954 ــ وبالذات من مشروع دستور 1954 ــ الذى رفضه مجلس قيادة الثورة، وجاء بدستور 1956 الذى ظل هو بكل سوءاته أساسا للدساتير المتعاقبة حتى الآن.

ولا أحد ينكر أن دستور 1971 قبل أن تشوهه التعديلات التى طرأت عليه، فيه أيضا ما يمكن أن يستفاد منه. بل إن به بعض النصوص الرائعة فى مضمونها التقدمى، والذى يعلى سيادة القانون ويحمى الحرية. أقول بوضوح بعض النصوص.. وقد كررت ذلك مرارا..

وأعود فأكرر أن كل عبارة كتبتها فى هذا المقال ليست جديدة بالنسبة لى، وهذا دليل على أن هذا المقال ليس دفاعا عن أحد وليس تعريضا بأحد، وإنما هو لوجه الله ولوجه مصر…

ليتنا لا نفكر فى غير مصر…

وفى سبتمبر من العام الماضى وجهت خطابا مفتوحا إلى السيد رئيس الجمهورية على صفحات «المصرى اليوم»، دعوت فيه إلى ما يقرب مما دعا إليه الأستاذ هيكل. وكثيرون غيرى فعلوا نفس الشىء، ولم يقل أحد إننا نريد إحداث ثورة دستورية.

لكن عندما تكلم هيكل ــ وهذا طبيعى ــ حدثت ردود فعل قوية وعديدة فى المجتمع المدنى ولدى النظام فيما أظن، بدليل مقال الدكتور عبدالمنعم سعيد. وكل هذا خير لأن هذا كله يدل على وجود حراك لدى شعب لن يموت مهما سلطوا عليه من وسائل القهر.

اظهر المزيد

د. يحيى الجمل

(الجمعة 20 شهر ربيع الأول 1349 هـ / 15 أغسطس 1930م - الاثنين 21 صفر 1438 هـ / 21 نوفمبر 2016م).. فقيه دستوري مصري، من مواليد محافظة المنوفية، اسمه بالكامل «يحيى عبد العزيز عبد الفتاح الجمل»، حصل على ليسانس الحقوق، 1952. ثم ماجستير في القانون، 1963. ثم دكتوراه في القانون، عام 1967. بدأ حياته الوظيفية بدرجة معاون نيابة، 1953. ثم مساعد نيابة، 1954. ووكيل نيابة، 1954. ومدرس بكلية الحقوق جامعة القاهرة، 1964. وأستاذ مساعد، 1970. وأستاذ بقسم القانون العام بكلية الحقوق، جامعة القاهرة. ثم عميد كلية الحقوق، جامعة القاهرة. وتولى منصب وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء ووزير التنمية الإدارية. ونائب رئيس مجلس الوزراء 2011 استقال من منصبه في 12 يوليو من نفس العام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى