مساحة للاختلاف

عباس محمود العقاد يكتب: الرجاء

إن الرجاء طبيعة الحياة، لا بل هو اسم آخر من أسمائها، فما كانت الحياة إلا أملًا يتحقق لصاحبه على غير إرادة منه، وما كان حي قط إلا أمنية في ضمير الغيب، غلب فيها الإقدام على الإحجام، والتوفيق على الحبوط، وسنة الخلق على فوضى الإهمال. فإذا هي ذات سوية، ونفس شاعرة ظهرت يسبقها الرجاء ويحدوها الرجاء ويستاق ركابها الرجاء، ولو كان غير الرجاء عنوانًا للطبيعة لما كان لنفس حية من سبيل إلى الوجود.

أرأيت حبة البُرِّ الضئيلة متروكة في حيث يترك الرفات السحيق؟ أين هي في قلتها وصغرها من عناصر الشك المحدقة بها، وزواجر الخوف المترصدة لها، تثقلها الأرض بأديمها، وتنذرها الرياح بسمومها، ومن فوقها منجل للحصاد كم حصد من قبلها سنابل وحبوبًا، لا بل قبائل وشعوبًا، وألوانًا من نبت الحياة وضروبًا، فما كان يعوزها في كل ذرة من التراب نذير جهير، وفي صوب من الفضاء عدو قدير.

تلك الحبة لو وقفت لحظة في مكمنها تزن قوتها إلى تلك القوى، وتقسم جرمها على تلك الأجرام، وتقيم حقها في النماء على ما يظهر لها من هذه الفروق، وتبني أملها في الفلاح على ما أصاب الزروع الفانية من قديم، فأي مثوى كانت تراه لمداراة ضعفها وذلتها أرأف بها من التراب؟ وأي مقر كان أحق بها من ذلك القبر المستور؟

إنه مأمنها الذي لا تخاف فيه، وفي القبر يأمن الأموات!

لكن الرجاء لا يدين بهذا المنطق العقيم. إنه يقول لها: انهضي فتنهض، مزقي غلافك فتمزقه، وشقي أديم الأرض فتشقه، وكافحي الرياح فتكافحها، وابلغي حظك من التمام فتبلغه. فإذا هي زرع بهيج مستوٍ على سوقه يُعجب الزراع. وما أحسن حظ الأحياء!

إن تلك الحبة لا تستشير الفلاسفة، ولا تأخذ بنصح الحكماء، إنها لا تسمع لأولئك القادة المفكرين، الذين إنما يبيحون أممهم من حق الحياة على حساب ما بينها وبين القوى المقاومة لها من الفروق، والذين يقولون لأممهم في كل مطلب تطلبه: إنك ضعيفة وإنهم أقوياء، والذين يستحمقون تلك الحبة في مجازفتها ولو أنها كانت مثلهم في حذرهم وأناتهم لما نبت على ظهر الأرض نابتة، ولماتوا جوعًا قبل أن يولدوا في هذا العالم الطائش المجنون!

أيها الرجاء! ما أحوج الناس إليك وما أسهل طريقك إليهم، كذلك عهدنا بألزم حاجات الأحياء: الهواء والماء والضياء، ولعمري إن حاجتهم إليك لأكبر، وإن طريقك إليهم لأسهل وأيسر، لقد تخطيت بهم سدود الموت فمددت لهم من ورائها رواقًا رحيبًا ينعمون بانتظاره قبل أن ينعموا بجواره، وفتحت أبواب السماء، فعمرها الإنسان بأحبابه وأنصاره، واتجه إليها بصلواته وأفكاره، واستأنست له أعالي الكون وأسافلها، فكأنما هو منها في قرارة داره، وكأنما أنت الأثير المفروض لا يخلو منه فضاء، بل إن أثير الروح لولاك لما أشرق عليها ضياء، ولما جال في نواحيها جمال السماء.

ولقد قيل لأحدهم: كيف تكون جهنم؟ فقال: مكان لا رجاء فيه. وقد صدق. فحيث يسود القنوط فهناك عذاب أليم وشيطان رجيم، وحيث يقيم الرجاء فهناك جنة نعيم، ووحي من الله وتسليم.

اظهر المزيد

عباس محمود العقاد

(28 يونيو 1889 - مارس 1964) أديب ومفكر وصحفي وشاعر مصري، ولد في أسوان عام 1889م، وهو عضو سابق في مجلس النواب المصري، وعضو في مجمع اللغة العربية، لم يتوقف إنتاجه الأدبي بالرغم من الظروف القاسية التي مر بها؛ حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات، ويعد العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر. ومن أشهر أعماله سلسلة «العبقريات» التي أرخت لسيرة عظماء العصر الإسلامي وفي مقدمتهم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بكتاب «عبقرية محمد». اسمه بالكامل، محمود إبراهيم مصطفى العقاد، وكان يلقب بـ عملاق الفكر العربي، ويعد أحد مؤسسي مدرسة الديوان الأدبية ذائعة الصيت في وقتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى