الدكتور رفعت السعيد يكتب: أردوجان.. والإخوان
عندما وصل أردوجان إلى مطار القاهرة فوجئ بحشد من عدة مئات من الإخوان وهم يهتفون «أردوجان، أردوجان تحية كبيرة من الإخوان» و«أردوجان، أردوجان أنت حبيب الإخوان».
لكن حواراً تليفزيونياً مع قناة مصرية أغضب الإخوان ودفعهم إلى الهجوم العنيف عليه.
قال «أردوجان»: «إن الجدل حول العلمانية كان الشغل الشاغل للأتراك فى بدايات بناء الدولة الحديثة»، وأضاف: «العلمانية ليست مفهوماً رياضياً ثابتاً كأن يقال 2+2=4، فمفاهيم العلمانية فى أوروبا مختلفة عنها فى تركيا، وقد دفعنا ثمناً باهظاً من أجل الوصول إلى مفهوم يضمن تواصل مسيرة الدولة»، وقال: «إن دستور 1982 فى تركيا يتضمن تعريفاً ينص على أن الدولة العلمانية تقف على مسافة متساوية من كل الأديان، وقد يكون الشخص غير علمانى مثلى لكننى رئيس وزراء دولة علمانية، وأفعل ما يوجبه علىّ هذا المفهوم.
ففى تركيا 99% من السكان مسلمون والباقى مسيحيون وموسويون ويهود وأديان أخرى والدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وحضارتها السابقة زاخرة بنماذج عديدة من ذلك فى التاريخ الإسلامى» ثم قال «إننى أفهم وأؤكد أن الدولة العلمانية لا تنشر اللادينية، ولكنها تحترم كل الأديان»، ثم وجه حديثه إلى المصريين قائلاً «يجب ألا يقلق المصريون من هذا الشأن، خصوصاً بعد ثورة 25 يناير، وأتمنى من الشعب المصرى أن يأخذ فكرة العلمانية من الزاوية التى طرحتها، وأؤمن بأن البنية العلمية فى مصر تستطيع أن تجتاز هذه المرحلة بكل سهولة»، وأضاف أن تجربته فى قيادة تركيا تقوم على ثلاثة محاور هى الإنسان والعلم والمال.
وانفجرت هذه التصريحات فى وجه أعداء العلمانية سواء الإخوان أو السلفيون، وصرح د.عصام العريان «لا أردوجان ولا غيره له حق التدخل فى شؤون دولة أخرى، ولا يمكنه فرض نمط بعينه عليها»، وكذلك صرح د.محمود غزلان، المتحدث الرسمى باسم الإخوان «إن جماعة الإخوان المسلمين تعتبر تصريحات أردوجان تدخلاً فى الشأن المصرى»، أما الدكتور عبدالمنعم الشحات، المتحدث الرسمى باسم «الدعوة السلفية»، فقال إن دعوة أردوجان للترويج للنظام العلمانى التركى غير مرحب بها على الإطلاق وغير مقبولة «جريدة الشرق الأوسط- لندن- 15/9/2011».
ولعل هذه التصريحات المتصادمة تفتح باب الحوار مرة أخرى حول «العلمانية»، لكننى أستأذن القارئ فى حكايتين مختصرتين أسبق بهما حديثى عن علمانية الدولة.
ففى ندوة حوارية فى معرض الكتاب المصرى، أيام كان معرضاً للكتب ومنتدى مفتوحاً لمختلف الآراء، قال أحد القادة الإخوانيين إن من مظاهر انتصارات الإسلاميين المتتالية، والدليل على صحة مواقفهم- هو انتصار رجب طيب أردوجان فى الانتخابات، وأعترف أننى لم أكن معجباً بأردوجان فقلت وهل تنسى أنه يترك لأمريكا قاعدة أنجرليك، ويقيم علاقات حسنة جداً مع إسرائيل؟!. فأدمى الأخ الإخوانى كلماته دفاعاً عن أردوجان واستخدم مفردات مثل «الضرورات تبيح المحظورات»، وقال «انتظر وسترى تجلى الدولة الإسلامية فى تركيا، فقط بعضاً من الوقت حتى يفلت أردوجان من قبضة العسكر»، ولكن أردوجان أفلت، وتمترس وعادى إسرائيل بقسوة.. وظل محترماً للنموذج العلمانى.
أما الحكاية الثانية فهى أننى ألقيت محاضرة عن العلمانية فى نادى الخريجين بالبحرين فى عام 2000. وكان الحضور كثيفاً وفوق المعتاد، وجرى الحوار عنيفاً من البعض وفوق المعتاد أيضاً. وفى ختام الحوارات المحتدمة وقف أستاذ جامعى مهيب، وقال: كل ما قلته صحيح، وأنا معك، وأرفض أى رفض للعلمانية، ولكننى أقترح عليك تجنباً للمماحكات الشرسة أن تسميها شيئاً آخر غير العلمانية، التى يشيعون عنها ما لا يقبله الناس. وفيما أغادر قلت بصوت عال: هى العلمانية ولا اسم آخر لها، فالوردة لا تتغير إذا سميتها اسماً آخر. وعندما عدت أسرعت بطبع المحاضرة فى كتاب عنوانه «العلمانية بين الإسلام والتأسلم»، وحظيت بسببه بهجوم شديد وكان الأشد هجوماً جريدة الشعب (حزب العمل)، التى رفضت أن تعيد ذكر كلمة «علمانية»، لأنها رجس من فعل الشيطان، فأتى هجومها على شخصى وكتابى، لأننى «دنيوى» لكننى تمسكت بعبارة لأبينا رفاعة الطهطاوى تقول: «لو أننى غيرت آرائى للحياء أو الخوف لكان ذلك محض موالسة».
وها أنا- ومرة أخرى- أعاود الدفاع عن العلمانية من منظور عقلانى وليس من أجل المعاندة. فما هى العلمانية؟
هى بالفرنسية Laique، وأصلها الرومانى لا ييوكوس، أى الذى ينتمى للشعب، وهى بالإنجليزية Secularism وأصلها اليونانى Seculum ومعناها الحرفى الزمنية أو الدنيوية أى ما له علاقة بالدنيا التى نعيشها، واستخدمت لاحقاً بمعنى فصل الدين عن الدولة، وبهذا يمكن القول إن للعلمانية وجهين هما العلم والعقل كأساس للتقدم الإنسانى، والوجه الآخر هو القول بفصل الدين عن الدولة، وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع فئات المواطنين بغض النظر عن دياناتهم، وأول من اشتق لفظ «علمانية» و«علمانى» هو إلياس بقطر فى قاموسه المعجم الفرنسى- العربى (عام 1828)، ثم أقر مجمع اللغة العربية هذه التسمية فى عام 1950. وبهذا تنطق كلمة «عِلمانية» إما بكسر العين بما يشير إلى التفكير العلمى واستخدام العلم والعقل كمعيار لصحة الأشياء، وإما بفتح العين «علمانية» أى النظر إلى الكون وقوانينه على أساس من إعمال العقل لفهم مختلف الظواهر الكونية والمحلية، الماضية والحاضرة، أى أن العقل يجب أن يتجه نحو إدراك الظواهر وتحليلها واستنباط قوانين وآليات لفهم هذه الظواهر وتشابكاتها.
وإذا كان البعض يرفض استخدام العقل لفهم الظواهر الكونية، باعتبار أن ذلك مخالف لمبدأ التسليم بالإيمان، فإن الأستاذ الإمام محمد عبده قد أكد فى كتابه العمدة «رسالة التوحيد» ضرورة استخدام العقل استخداماً مجرداً لفهم وإقرار وحدانية الله.
لكننا نحذر من أن «العلمانية» ليست نسقاً واحداً مغلقاً ونهائياً، فهى لا تصنع فى معمل معقم لا يتأثر بالظواهر المجتمعية التى تميز كل مجتمع على حدة، بل هى حركة مجتمعية تتأثر بل تتكون عبر المؤثرات المحلية، ومن ثم فإن هناك علمانيات عديدة.
والعلمانية هى بوابة الدولة المدنية التى تحترم جميع مواطنيها وتمنحهم حقوقاً متساوية تماماً.
والحقيقة أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية، وإنما عرف الادعاء بها والتمسح بها، فمعاوية عندما رأى كثرة مناصرى على بن أبى طالب قال: «والله لأستميلن بالأموال رجال علىّ ولأقسمن فيهم المال حتى تغلب دنياى آخرته»، ومنذ معاوية ظل الحكام يحكمون على هواهم حكماً دنيوياً، أما القول بالإسلام فكان مجرد ستار يسترون به ظلمهم.
ويبقى أن أقرر أننى أختلف مع أردوجان ومع مشروعه الإمبراطورى.