العدالةمساحة للاختلاف

الدكتور شوقي السيد يكتب: إهمال المشرع .. يزلزل أحكام القضاء!

هذه الكلمات ليست درسا نظريا ، أو مفردات محاضرة نقاشية، لكنها تعكس واقعا مثيرا، عندما يهمل المشرع فى اصدار التشريع، أو يمتنع عن اصداره، بما يؤدى إلى زلزلة احكام القضاء ويفجر بركاناً فى المراكز القانونية والحقوق، ويسبب اهدارا للوقت والمال، وتكاثراً لأعداد القضايا أمام المحاكم، كل ذلك يحدث بدلاً من الاصلاح أو تيسير اجراءات القضاء اذ يترتب على ذلك تعقيد ونسف لاجراءات التقاضى كاملة والعودة بها إلى نقطة الصفر.

حدث ذلك عندنا ، منذ بدأت المحاكم العادية تنظر قضايا الضرائب، فى ظل قانون مجلس الدولة الصادر فى أكتوبر عام 1972، أى منذ أربعة وأربعين عاما بالتمام والكمال، تسمع المحاكم المرافعة.. وتطالع المستندات وتحيل إلى مكاتب الخبراء، وتُصدر الاحكام .. ثم تنظر محاكم الاستئناف الطعون وتطالع المستندات وتؤجل جلسات المرافعة للإطلاع وتبادل المذكرات ثم تصدر الاحكام، ثم يُطعن الخاسر عليها أمام محكمة النقض لتصدر الاحكام ، وتستقر بها المراكز القانونية نهائيا أما بحكم قطعى فاصل وبات، واما بنقض الحكم مع الاعادة الى محكمة الاستئناف.. لنظرها من جديد بحكم قابل للطعن أمام محكمة النقض للمرة الثانية.

هذه الاجراءات القضائية، وهذا المشوار الطويل أمام المحاكم بدرجاتها المختلفه يستغرق أكثر من ربع قرن من الزمان!! بالنظر إلى الكم الهائل من القضايا المتداولة.. والى طبيعة اجراءات التقاضى التى ظلت دوما هدفا للتيسير والاصلاح منذ زمن بعيد.. لكنها مع ذلك بقيت على حالها من البطء والتعقيد!!

لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، استصحاباً لما كان عليه الحال، بل كانت المفاجأة الكبرى أن المحكمة الدستورية العليا بالبلاد ، أصدرت حكمها فى أغسطس الماضى 2015 أى منذ عدة شهور، لتعلن فى حكمها، أن نظر المحاكم العادية لقضايا الضرائب خلال أكثر من أربعين عاما كان مخالفاً للدستور، وتعديا على اختصاص مجلس الدولة ، لأن قانون مجلس الدولة الصادر منذ عام 1972كان قد تطلب صدور قانون اجرائى لنظرها، وان التراخى فى سن القانون المنظم لكيفية نظر الطعون ، وقد طال اهماله، لا يعد مبررا أو سببا لاهدار النص الدستورى، الذى كان قد عهد الى مجلس الدولة بنظرها، وان عدم اصدار القانون يعد انحرافا لا يبرر مخالفة الدستور ، وأن أحكام القضاء الصادرة فى تلك القضايا قد صدرت من محاكم غير مختصة.

وترتب على حكم المحكمة الدستورية، زعزعة استقرار المراكز القانونية التى استقرت باحكام القضاء الصادرة فى شأن المنازعات الضريبية، خلال سنوات طويلة تجاوزت الاربعين عاماً لم تكن مختصةبنظرها، وبعد حكم الدستورية، اصدرت محكمة النقض احكامها بنقض الاحكام التى تنظرها وامرت باحالتها الى مجلس الدولة لتنظرها من جديد.. بعد مضى عشرات السنين.. وصدور الاحكام النهائية فيها من محاكم الاستئناف!!

ترتب على ذلك زلزلة تلك الاحكام القضائية، وازدحمت اروقة مجلس الدولة بملفات تلك القضايا، التى بلغت نحو خمسة ملايين قضية، ضاع فيها الجهد والمال.. كما تبدد فيها الوقت خلال تلك الفترة السابقة.. سواء كانت قد صدرت فيها الاحكام لصالح مصلحة الضرائب أو الاشخاص الطاعنين من الافراد أو الشركات الخاصة أو العامة، المصرية والاجنبية!! ولسوف تنتظر هذه القضايا دورها فى الطابور المخيف أمام مجلس الدولة بعد تراكم القضايا وتردى الزمن!!

نعم يعتبر اعلاء المشروعية الدستورية من المبادئ الدستورية الواجب اتباعها فى البلاد ، لكن احترام الاحكام القضائية فى ذات الوقت يعلو على اعتبارات النظام العام ، ولهذا تعتبر هذه القضية الخطيرة .. مسئولية المشرع الذى تراخى فى اصدار قانون تنظيم اجراءات الطعن أمام مجلس الدولة منذ عام 1972 وحتى الآن !! وهو ما وصفته المحكمة الدستورية العليا بالاهمال والانحراف فى التشريع .. وهو ما يثير عدة تساؤلات مشروعة وجادة.. ما ذنب المواطنين من المتقاضين عن الاضرار التى اصابتهم بسبب هذا الاهمال والانحراف من جانب المشرع فى عدم اصدار القانون منذ عام 1972وحتى الآن؟! ثم ما ذنب القضاة أمام المحاكم الابتدائية والاستئناف الذين بذلوا الجهد والوقت واصدروا الاحكام .. ثم تنهار احكامهم، لتبدأ سيرتها الاولى من جديد، بسبب اهمال المشرع وعدم اصدار قانون اجرائى ينظم نظر الطعون الضريبية؟! وماذنب قضاة النقض أيضا الذين يعقدون جلساتهم ويسمعون المرافعة ثم يصدرون الاحكام بالنقض والاحالة إلى مجلس الدولة؟!

ثم هل استعد مجلس الدولة لنظر هذه الطعون؟! وماذا سيكون عليه الحال، هل ستبدأ الإجراءات من جديد فى نظرها أمام محاكم القضاء الادارى.. والاحالة الى المفوضين.. وتقف فى الطابور الطويل.. لتبدأ من جديد، فى غيبة صدور قانون للاجراءات لهذه الطعون وحتى الآن وهل ستظل عشرين سنة أخرى بين القضاء الادارى والمحاكم الإدارية العليا ؟!.. أم ماذا !! اسئلة مشروعة ومسئولة تطرح نفسها وتبحث عن مواجهة واجابة لتلك القضايا الحائرة!!

حقاً حضرات السادة إن قضية واحدة يمكن أن تقصف العمر بسبب الاجراءات.. والتعقيد والبطء .. حتى بلغت الانحراف التشريعى.. وعدم اصدار التشريع فى وقته.. ليأتى الامر بعد أكثر من أربعين عاماً .. لتصدر المحكمة الدستورية حكمها بعدم دستورية النص.. بما من شأنة زلزلة احكام القضاء التى صدرت واستقرت لسنوات طوال.. لتبدأ نظر القضايا من جديد.. واذا كان ذلك قد حدث فى قضايا الضرائب .. فانه يمكن أن يحدث فى قضايا اخرى، ومازلنا نتحدث عن تيسير اجراءات التقاضى وعن تخفيف المعاناة.. وعن الاصلاح التشريعى لكن يبدو أنه لا مجيب!! وعلينا أن نترقب ماذا سيفعل المشرع.. ازاء اهماله ثم ماذا سيفعل مجلس الدولة حامى حمى المشروعية فى البلاد إزاء هذا الطوفان الذى يبحث عن الطريق!!

اظهر المزيد

د. شوقي السيد

(1937 – 10 ديسمبر 2021) .. فقيه دستوري، وعضو سابق بالبرلمان المصري، وقامة قانونية كبيرة، ولد بمدينة «السنبلاوين» في محافظة الدقهلية. تلقى تعليمًا أزهريًا وأصبح من رجالات التعليم، وكان من أصحاب العقليات المتفتحة. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1959. وبعد تخرجه من الجامعة تقدم إلى النيابة العامة، وقبل بها، وبعدها انتقل للعمل فى مجلس الدولة حتى تقدم باستقالته من العمل بالقضاء للعمل العام. عمل مستشارا بمجلس الدولة، وعضو المجلس الأعلى للصحافة الأسبق. كان عضوًا في لجنة تقنين الشريعة والقانون بمجلس الشعب، في الفترة من 1979 حتى 1984. وعضوًا في مجلس الشورى فى الفترة من 1995 حتى عام 2011، ووكيل للجنة حقوق الإنسان بالمجلس "2008 - 2011". تقلد العديد من المناصب، وعمل مستشارًا قانونيًا للعديد من الوزارات والمؤسسات العلمية والصحفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى