الأكاديمية

أيام عجاف تحت قصف نيران العدو.. بورسعيد تحتفل بمرور 66 عاما على جلاء العدوان الثلاثي

بورسعيد .. لم تكن فقط “المدينة الإستثناء” الفريدة في موقعها المميز وطبيعتها التي حباها الله تعالى بها، بل منحها الله شعبا أشبه بالبحر وصفاته، أبيّ عنيد لا يرضى الإنكسار، شامخ الرأس، جبهته تناطح السحاب، رفض أن يخضع لعدوان أكبر ثلاث قوي في العالم، وحارب وصد خطر الإحتلال عن مصر كلها، ففداها شباب ورجال وأطفال ونساء بأرواحهم، وروت دمائهم الطاهرة الذكية أرضه.

تستطيع أن تشم رائحة دماء الشهداء العطرة حين تجولك في أحياء العرب والمناخ، تلك التي ضربت بقذائف العدوان الثلاثي الغاشم من طائراتهم الحربية وتحولت تلك الأحياء لكتلة من النيران وجثث وأشلاء الأهالي التي تراكمت فوق بعضها ودفنت ف مقابر جماعية.

الآن وبعد مرور 66 عاما، وجلاء آخر جندي من جنود الإحتلال عن أرض بورسعيد في 23 ديسمبر 1956م، ومع تلك الذكرى نرى اليوم مشاهد أخرى تحولت فيها المدينة الباسلة أرض الفدائيين، إلى قاطرة تنمية لمصر كلها، فالأمس فدت مصر واليوم تُغذي إقتصادها، وتقود التنمية إلى مسارها الصحيح في طريق بناء “الجمهورية الجديدة” .

66 عاماً مرت علي دحر أهالي المدينة الباسلة للعدوان الثلاثي في 23 ديسمبر 1956، عاشت بعدها بورسعيد سنوات صعبه في الستينات حتى انتعشت المدينة التجارية الحرة في أوخر السبعينات بصدور قانون 12 لسنة 1977، وتزدهر المهن المختلفة التى تُميز المحافظة مثل البمبوطية والبحارة وغيرها، ويظل ذلك حتى بدايات عام 2000، لتشهد بعد ذلك ركوداً تدريجياً يصل لذروته 2011 ويظل ذلك طيلة سنواتٍ عديدة حتى تعود الإنتعاشة مرة أخرى خلال هذه الحقبة الزمنية لإنشاء الجمهورية الجديدة.

وأعلن الرئيس جمال عبدالناصر، رئيس جمهورية مصر العربية وقتها، في يوليو 1956، عن تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية، وهو ما يعني نقل الملكية من الحكومة الفرنسية إلى الحكومة المصرية مقابل تعويضات تمنح للأجانب، رداً على قرار البنك الدولي والولايات المتحدة وبريطانيا بسحب تمويلهم لبناء السد العالي، والذي علم به جمال عبد الناصر يوم الخميس 19 يوليو 1956.

نص قرار تأميم القناة

“باسم الأمة‏..‏ باسم الأمة”..

1-تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية‏،‏ وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليا علي إدارتها، ويعوض المساهمون وحملة حصص التأسيس عما يملكونه من أسهم وحصص بقيمتها‏، مقدرة بحسب سعر الإقفال السابق علي تاريخ العمل بهذا القانون في بورصة الأوراق المالية بباريس‏، ويتم دفع هذا التعويض بعد إتمام إستلام الدولة لجميع أموال وممتلكات الشركة المؤممة‏.

2-يتولي إدارة مرفق المرور بقناة السويس مرفق عام ملك للدولة.

3-تجمد أموال الشركة المؤممة وحقوقها في جمهورية مصر وفي الخارج‏، ويحظر علي البنوك والهيئات والأفراد التصرف في تلك الأموال بأي وجه من الوجوه، أو صرف أي مبالغ أو أداء أية متطلبات أو مستحقات عليها إلا بقرار من الهيئة المنصوص عليها في المادة الثانية.

4-تحتفظ الهيئة بجميع موظفي الشركة المؤممة ومستخدميها وعمالها الحاليين، وعليهم الإستمرار في أداء أعمالهم، ولا يجوز لأي منهم ترك عمله أو التخلي عنه بأي وجه من الوجوه،‏ أو لأي سبب من الأسباب، إلا بإذن من الهيئة المنصوص عليها في المادة الثانية،

5-كل مخالفة لأحكام المادة الثالثة يعاقب مرتكبها بالسجن والغرامة توازي ثلاثة أمثال قيمة المال موضوع المخالفة‏,‏ وكل مخالفة لأحكام المادة الرابعة يعاقب مرتكبها بالسجن‏،‏ فضلا عن حرمانه من أي حق في المكافأة أو المعاش أو التعويض‏.‏

6- ينشر هذا القرار في الجريدة الرسمية،‏ ويكون له قوة القانون، ويعمل به من تاريخ نشره‏،‏ ولوزير التجارة إصدار القرارات اللازمة لتنفيذه‏.

قررت الحكومة البريطانية تجميد الأرصدة المالية لمصر في بنوك إنجلترا بعد قرار تأميم قناة السويس، مما أثار مطامع بعض الدول ومثلوا عدواناً ثلاثياً مشكلاً من “فرنسا، إنجلترا، وإسرائيل”، على محافظة بورسعيد بشكل خاص في 5 نوفمبر  باعتبارها مدخل القناة وبدأوا توجيه ضربات على مصر كلها في 29 أكتوبر.

وقال محمد خضير، أحد مثقفي بورسعيد، ورئيس فرع الثقافة بالمحافظة السابق، إنه يشعر بالفخر خلال تواجده بميدان الشهداء حينما يتذكر ذكريات جلاء العدوان الثلاثي وبطولات الأهالي ضد هذه القوى العظمى، مشيراً إلي أن الملاحم تم تسطيرها عسكرياً وأيضاً من خلال القوى الناعمه المتمثلة فى الصحافة والثقافة والفن.

وأوضح الكاتب محمد خضير، أنه تم مجابهة العدوان الغاشم بـ 10 فرق فدائية مقسمه على مناطق حيوية في أحياء العرب والمناخ، لافتاً إلى أن الفدائيين ببورسعيد كتبوا أسمائهم في التاريخ بحروف من ذهب، وعلى سبيل المثال في إحدى البطولات قام السيد عسران – أحد الفدائيين صاحب ال 17 عام وقتها، بقتل السير ويليمز قائد المخابرات البريطانية في إحدى العمليات الشهيرة بالمدينة الباسلة.

وأشار إلى أن للمرأة دور عظيم في المقاومة الشعبية، وخلدن أسمائهن بحروفٍ من نور مثل الفدائيات “زينب الكفراوي، زينب أبو زيد، أفكار العوادلي، نجيه عبدالغفار، ليلى إسماعيل، سلوى الحسيني، وغيرهن”، موضحاً أنهن كن يعملن في قوات المقاومة الشعبية مثل زينب الكفراوي التي كانت تقوم بتهريب السلاح في سيارة الطفل، والبعض الآخر يعملن في تضميد وعلاج المصابين من الفدائيين.

وأضاف، أنه كان للصحافة دور كبير في المقاومة الشعبية من خلال بث روح العزيمة والإصرار للأهالي والفدائيين، وبث الرعب في قلوب العدو، وكان من بين هؤلاء “مصطفى شردي، أمينه شفيق، أحمد حمروس، احمد زين، سمير عبدالقادر، إلهامي حسين، محمد البيلي، ومحمد الليثى”، وفي هذا التوقيت صدرت جريدة بإسم “الإنتصار”، وتم طباعة أول نسخه منها في مطبعة مخلوف، وثاني عدد كانت من مطبعة حامد الألفي “الكنال”، وكانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية يتم بث فيها رسائل لشحذ همم الفدائيين وبث الرعب في صفوف العدو، والسمسمية كان لها دور كبير من خلال الأغاني الوطنية التي تغني بها الريس دمرداش عبدالسلام، الريس محمد أبو يوسف، وعارف السمسمية كمال عضمه حينما قالوا : ” في بورسعيد الوطنية.. شباب مقاومة شعبية.. دافعوا بشهامه ورجولية..وحاربوا جيش الاحتلال”.

وقال المهندس محمد بيوض المؤرخ البورسعيدي، إنه تم قصف الأحياء القديمة ببورسعيد مثل حي المناخ الذي تم إحراقه وضربه بالنابالم، وجزء كبير جداً من حي العرب، وبدأ سقوط الشهداء في أماكن عديدة ببورسعيد، من ضرب الطيران للعدو بأماكن التجمع السكنية في هذه الأحياء، مضيفًا أن العدو بدأ في الإنزال بالباراشوتات بمنطقة الجميل، وكانت الدفعة الأولي لجنود العدو حوالي 200 فرد من المرتزقة الهجانة وغيرهم، وحينها رفض أهالي بورسعيد وجودهم واحتلال الأرض وقاموا بإبادتهم جميعاً بالقرب من مطار الجميل غرب المدينة، وشرقاً في بورفؤاد التي تقع علي المجري الملاحي لقناة السويس .

وأشار المؤرخ البورسعيدي، إلى أن قوات العدوان الغاشم تقدموا بجنازير الدبابات علي أجساد الشهداء في مشهد تُدمي له الأعين، وكان ذلك عندما فوجئ الأهالي بدبابات تتقدم علي أرض المحافظة وترفع علم الإتحاد السوفيتي، فظنوا أنها أتت لإنقاذ المدينة من العدوان، ولكنها خدعة من العدو وانهالت النيران علي البورسعيدية من كل مكان وسقط العشرات من الشهداء .

لم يتمكن الأهالي حينها من دفن ذويهم، وانتشرت الجثامين متراكمة  في الشوارع، حتى أن بعض الأهالي  حملوا بعض منها علي عربات كارو ووضعها علي بوابات المقابر، ولكن كان لأحد أبناء بورسعيد وهو  حامد الألفي، دور كبير حينما فكر في دفن شهداء بورسعيد بأرض ملعب النادي المصري، وبعد امتلاؤه اقترح أيضاً أن يتم وضع أجساد الشهداء في مقبرة جماعية وكتابة الأسماء عليها بعد ذلك، ومن ثم جعله نصب تذكاري للشهداء داخل باب رقم 1 في مقابر بورسعيد.

وأوضح المؤرخ البورسعيدي، أن بورسعيد شهدت أيام عجاف بسبب الحصار الذي كان عليها، فكانوا يعيشون بلا مياه أو غذاء، حتي أن الصيد كان خطر علي حياتهم، ففتحوا أبواب الجمارك وأخذوا الدقيق وصنعوا الخبز بالمنازل وعاشوا علي ما تبقي من المكرونة، ولكن عناية الله كانت حافظه، فكانت مياه الأمطار وقتها تطفئ الحرائق التي تسبب بها العدوان.

شهد الأعداء ببسالة أهالي بورسعيد، حينما ذكرت مواقع إنجليزية وفرنسية، الملاحم البطولية الخارقه التي سجلها أبطال بورسعيد خلال العمليات النوعية التي كانوا يقومون بها حفاظاً علي أرضهم، فكانوا يقومون بخطف السلاح من الدوريات الليلية للعدو، وحينها كانت تهرول الدورية خوفاً من القضاء عليها .

وروي فوزي أبو الطاهر، المعمر البورسعيدي الذي تخطي المئة عام ويعيش في حي المناخ، عن العمليات الفدائية التي لها كبير الأثر في جلاء العدوان الثلاثي وأهمها خطف مورهاوس – ابن عمة ملكة انجلترا “الملكة إليزابيث”، والتي نفذتها إحدي المجموعات الفدائية يوم 9 ديسمبر 1956، وظلت جثة مورهاوس في بورسعيد إلى أن تم التفاوض مع انجلترا للحصول على جثته واستبدالها ببعض الفدائيين، وتم التعرف علي جثته من طبيب الأسنان الخاص به عندما تم اخفاوه في الصندوق.

وأوضح “ابو الطاهر”، أنه كان أيضًا من أهم العمليات هي إغتيال الضابط ويليامز – الذي استعانت به انجلترا لمعرفته بطبيعة المصريين وكان طليق اللسان في التحدث بالعربية وهو ضابط مخابرات، وقام بهذه العملية الفدائي السيد عسران، حينما وضع قنبلة داخل رغيف خبز وقام بنزع الفتيل خلال حديثه مع هذا الضابط فمات هو وسائقه، آخذاً بثأر البورسعيدية ومن بينهم شقيقه الذي استشهد دهساً تحت جنازير دبابات العدو بأحد شوارع بورسعيد.

وبعد العديد من العمليات الفدائية ظهرت فيها بسالة أهالي بورسعيد خلال ما يقرب من شهر ونصف لم يستطع العدوان الثلاثي الصمود أمام المقاومة الشعبية، تم جلاء القوات تدريجياً حتى غادر آخر جندي في ال 23 من ديسمبر، ليصبح ذلك اليوم عيداً قومياً لبورسعيد، وسادت حالة من الفرحة والسرور بين أهالي المدينة الباسلة أطلقوا حينها الأفراح والبهجة والسرور في كل أرجاء المحافظة، وخرجوا في تظاهرات شعبية بشوارع أحياء العرب والمناخ والإفرنجي “الشرق حالياً”.

قال لقاء العجيمي، أحد مثقفي بورسعيد، إن المحافظة ضحت بالكثير من أبنائها حفاظاً على أرض الوطن، حتى أنه تكونت الشخصية البورسعيدية من مزيج للتضحية والفداء والقوة والبسالة لتبدأ المدينة الباسلة خلال عهد قريب بالتطوير حتى أصبحت السياحة بالألوان داخل معالمها، فهناك السياحة البيضاء لجبال الملح الكائنة بمدينة بورفؤاد، والسياحة الخضراء للتنزه في الحدائق المفتوحة بلا أسوار في كل أحياء المحافظة، والسياحة الزرقاء لكثرة المسطحات المائية بأشكالها البديعة، فكل ذلك جعل بورسعيد قِبلة للسياح من كل أنحاء العالم.

وأضاف الدكتور يُحنى نصحى، رئيس منطقة ضرائب بورسعيد سابقاً ومواليد 1960، أن بورسعيد عاشت أيام صعبه خلال فترات الحروب الماضية منذ العدوان الثلاثي مروراً ب 1967 حتى انتصار أكتوبر 1973 والتي بدأت المدينة الباسلة من بعدها في الإزدهار والإنتعاشة السياحية والتجارية حتى مرت أيضاً بأيامٍ صعبة في الألفينات حتى بدأت تخرج في ثوب جديد للجمهورية الجديدة بشوارعها وميادينها ومعالمها السياحية وأسواقها التجارية.

اضغط هنا لقراءة الموضوع الأصلي على موقع «اليوم السابع» 

اظهر المزيد

جاسر الطواف

صحفي وباحث وكاتب محتوى.. مصري .. شارك في تحرير وإدارة العديد من المواقع المصرية والعربية من بينها بلاحدود والضحى والمنصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى