مساحة للاختلاف

الدكتور مصطفى محمود يكتب: أبشروا !

يعلم الإسرائيليون من تاريخهم أن نبيهم داود انتصر علي جالوت بحجر قذف به من مقلاعه فأصاب جالوت إصابة قاتلة في عينه‏..‏ ولهذا خرجوا علي أطفال الحجارة يحصدونهم بالدبابات‏..‏ وبلغت المواجهة ذروة كريهة من العدوان الجبان غير المتكافيء بين أطفال صغار مكشوفين وعسكر محصنين داخل دروع دباباتهم‏..‏ وجاء الرد الفلسطيني بتصعيد العنف إلي ذروة أعلي بدفع عربة ملغومة وتفجيرها في زحام السوق‏..

‏ وسقط جرحي بالعشرات وقتل إسرائيلي وامرأة هي إبنة إسحاق ليفي زعيم الحزب القومي الديني في إسرائيل‏..‏ وندد الرئيس كلينتون بالهجوم وتدخل الرئيس مبارك ليطفيء النار التي اشتعلت بالنصح الهاديء‏..‏ وأمر باراك بإغلاق مطار غزة الفلسطيني‏..‏ وتتابعت ردود الفعل‏..‏

ولم يكن ماحدث مفاجأة لأحد فمطاردة الأطفال بالدبابات والرد علي حجارتهم بطلقات الرصاص أشعل الغيظ في القلوب وقضي علي ماتبقي من عقل

والآن يعلم الكل أن المنطقة سوف تحترق بما يغلي في داخلها من عناصر الإنفجار‏..‏ وأن التعايش مستحيل بين الغدر الإسرائيلي الكامن والأطماع الإسرائيلية اللا محدودة واللا نهائية في البيت الفلسطيني وما فيه ومن فيه وفي الأرض التي يري اليهود أنها أرضهم وفي ساكن الأرض الذي يري أن الحل الوحيد هو طرد الآخر أو قتل الآخر‏..‏ العقيدة اليهودية تري أن العرب كلهم جويم أي دواب وقطيع متخلف لا تنطبق عليه صفة الآدمية‏..‏ ويؤمن اليهودي الذي يحمل المدفع الرشاش أنه يرش به البعوض لا أكثر‏..‏ وأنهم شعب كما البعوض لا أرواح لهم‏..‏ ولا يرتكب قاتلهم إثما في توراة موسي‏..‏ فهم كالحشرات

وتسكن البغضاء سويداء القلوب ويشعل التعصب نفوس الأحبار فيزدادون عمي علي عماهم

ويتعب المفاوضون أنفسهم في تصور حل هو أقرب للمستحيل وانكشفت النفس اليهودية وسقط عنها مكياج الدبلوماسية وظهر القبح الصرف تحت المكياج وأسفرت القسوة والوحشية عن أنيابها وظهرت الصهيونية بأذرعها الأخطبوطية تحاون أن تعتصر الضحية علي ملأ من العالم‏..‏ الدبابات تحصد أطفالا بالرصاص لايملكون في أيديهم إلا الحصي‏..‏ وطائرات مقاتلة تتصيد الأولاد بالصواريخ‏..‏ هل هذه حرب أم هولوكوست‏.‏

الحقيقة ظهرت بلا رتوش وبلا أوهام ودونما خداع للنفس

كيف يكون التفاوض مع هؤلاء المجرمين بالعقل وهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الدنيا خلقت لهم ليسودها‏..‏ وأنهم شعب الله المختار لإصلاح العالم

والأمريكان الذين أبادوا الهنود الحمريفهمون هذا جيدا‏..‏ فهم كانوا يتعاملون مع الهنود الحمر بنفس الكبر والاستعلاء

وحينما أباد الأمريكان الهنود الحمر لم يكونوا ينظرون اليهم كبشر متساوين في الحقوق‏..‏ وهكذا كان موقف المستعمرين في كل مكان نزلوا إليه في أفريقيا السوداء وكانت سفن المستعمرين تشحن علي ظهرها الآف السود من أفريقيا عبيدا يباعون في اسواق النخاسة

ولم تكن حقوق الإنسان لها صوت ولها وجود في هذا العالم القديم

ولهذا لا يري الأمريكي العادي مانعا من أن يغمض العين بعض الشيء عما يفعله الأشقاء اليهود‏..‏ وهم في نظره أصحاب وزن انتخابي له قيمته في الحساب النهائي

والموقف الاستعماري القديم مازال ماثلا في أذهانهم‏..‏

ويسأل اليهودي العادي في غطرسة نفس السؤال‏..‏ هل كان حلالا ما فعلوه في الهند الحمر‏..‏ ليكون حراما علينا مانفعله في الدواب الجويم العرب الذين حقت لنا أرضهم وأملاكهم بأمر الله وحكم التوراة

والظلم يجر بعضه بعضا

ولا يستطيع الظالم أن يقول لأخيه الظالم بالفم المليان‏..‏ أنت ظالم

تلك ولا شك خلفيات تجعل هذه المظالم التي يرتكبها اليهود في عين الأمريكان والأوروبيين تبهت كثيرا‏..‏ ولا يعود لها في الواقع مكان

وسوف يتعاطف الظلمة بحكم تاريخهم وبحكم سجلاتهم وبحكم أفعالهم‏..‏ فمن يحاسب من؟‏!!‏

وسوف تبقي المشكلة‏..‏ عربية يهودية‏..‏ في النهاية وليذهب العرب الي الجحيم

ولماذا ينصر الأوروبيون الإسلام وهم ألد خصومه؟‏!!‏

وأين كانوا في الحروب الصليبية‏..‏ مع أهل الصليب‏..‏ أم مع أهل الاسلام‏..‏؟‏!!‏

من أجل هذا يشعر اليهود بالأمان رغم ظلمهم‏..‏ فبينهم وبين أمريكا وأوروبا مواثيق ومصالح‏..‏ والحال من بعضه وفي أسوأ الفروض سوف يضمنون حيادهم اذا جد الجد

ومن أجل هذا يمشون إلي آخر الشوط في ظلمهم وغرورهم ولا يعبأون بأحد‏.‏

ومن أجل هذا يتجبرون ويتمردون ويركبون رؤوسهم ويمضون في ظلمهم وأنوفهم في السماء فالله ناصرهم وأمريكا الكبري حليفتهم‏..‏ فمن يخافون؟‏!!‏

إن المشهد كله يدفع الي المزيد من التعصب والجنون‏..‏ والحجر يتدحرج من أعلي الجبل الي الهاوية‏..‏ كما تتفجر النفوس من الغضب

وسوف يتداعي الموقف إلي صدام أكيد‏..‏ والكلام عن السلام ضرب من الأحلام وحديث أمنيات

ويجب أن يكون هذا في حساب الإخوة العرب وتقديرهم وأن يعدوا العدة لجميع الاحتمالات

هل هذا تشاؤم؟

بل هو أخذ للأمور بالجدية اللازمة‏..‏

والأسوأ من ذلك بكثير‏..‏ هو الاسترخاء‏..‏ والنظر الي مايجري بتفاؤل أبله‏..‏ وانتظار معجزة تفاوضية يصنعها كلينتون‏..‏ والنوم في أحضان سلام كاذب يصنعه الوهم ويزينه الصديق الأمريكي بالعبارات الإنشائية والتذكيربحقوق الإنسان التي يقصد بها دائما حقوق الإنسان اليهودي وحده‏.‏

وإذا نجح آل جور في الانتخابات فسوف يأتي ومعه نائبه اليهودي الحاخام جوزيف ليبرمان‏..‏ واذا أصاب آل جور مكروه لا قدر الله‏..‏ فسوف يتقدم ليبرمان ليدير دفة الحكم ومن ورائه الحاخامات يحكمون العالم كله لأول مره في التاريخ

واذا جاء بوش بمواهبه العقلية المحدودة فلن يختلف الأمر كثيرا

ونحن نظن في العادة أن هذا وذاك من الذين يجلسون علي الكراسي هم الذين يحكمون العالم ويسيرون مقدراته وفق مشيئاتهم‏..‏ فهكذا نراهم طول الوقت في الظاهر هم الذين يصدرون لأوامر‏..‏ وهم في الحقيقة لا أكثر من عرائس تحركهم خيوط خفية من وراء خباء‏..‏ وما ثم في الحقيقة الا واحد هو الله الذي يحكم حركة الكون بما فيه ويسبب الأسباب ويمتحن القلوب ويختبر الضمائر ويسمح للرصاصة بأن تنطلق بعد أن يسجل نية القتل علي الفاعل‏..‏ ولكن اذا أراد ألا تصيب الرصاصة مقتلا فانها لن تصيب‏..‏ ولكن نية القتل سبقت وحقت الجريمة علي فاعلها‏..‏ فالموت والحياة عنده والعقاب والثواب عنده‏..‏ وهو وحده الذي يحيي ويميت‏..‏ وإن ظن الحكام أنها أمور بأيديهم‏..‏ فإنه هو وحده الذي يحيي ويميت وإن بدت الإماتة والإحياء علي يد هذا وذاك‏.‏

وهو الذي جاء بصلاح الدين في الماضي ولو شاء لجاء بغيره‏..‏ وهو الذي نصر السادات في حرب‏73‏ وهو الذي ألبس جمال عبدالناصر ثوب الخزي وعار الهزيمة في حرب‏67‏ وسوف نعلم يوم الحساب لماذا فعل فهو الناصر ولا ناصر غيره‏..‏ وهو الذي أمد اليهود بالمساندة الأمريكية‏..‏ وما زال يمدهم‏..‏ وهو الذي سوف يكسرهم الكسرة النهائية ويهدم كل مابنوا ويتبر كل ما علوا تتبيرا

بأيدي من؟‏!!‏ من سيكونون أصحاب هذا الشرف الرفيع؟‏!!‏

من الذي سيدخل علي اليهود القدس ويدمر عليهم الهيكل الذي رفعوا بنيانه ويحيله أنقاضا‏..‏ وأين تكون أمريكا العظيمة حينذاك‏..‏؟‏!‏

تكون حيث يريدها الله أن تكون‏..‏ كما فعل من قبل بعاد الأولي وثمود وبفرعون ذي الأوتاد ‏(‏التي نسميها الآن بالمسلات‏)..‏ فهو المعز المذل‏..‏ وهو وحده الجبار المتكبر‏..‏ وهو وحده المنتقم القهار‏..‏ وقد جاءت عار الثانية في ميقاتها

والعرض مستمر‏..‏ ونحن شهود

اقرأوا التاريخ فهو سجل إرادته ودفتر أوامره وهو معني أسمائه المعز المذل والرافع الخافض والقابض الباسط

وهو الصبور‏..‏ ومقدار صبره هو التاريخ كله‏..‏ وماقبل التاريخ وما بعده‏..‏ وبطول الأزل والأبد‏..‏ ولهذا يقول القرآن إنه‏…‏ أحاط بكل شيء علما فهو الحضور المستمر‏..‏ والآنية الممتدة

ومن يؤمن بالله يخرج من إسار الزمن ويتحرر من سجن اللحظات ويفوز بشميم من هذه الحضرة المستمرة والآنية التي يختفي فيها الزمن وتتأبد اللحظات‏.‏

ولا تجد هذه اللغة ولا هذا الفهم الا عند الصوفية المستغرقين في الذكر الغائبين عن أنفسهم وشهواتهم

هل خرجنا عن الموضوع‏.‏؟؟

بل نحن في صميم الموضوع

وانما هي إطلاله علي الدنيا من فوق

ويلزم من وقت لآخر أن نخرج من الدنيا ونطل علي صراعاتها من فوق لنحيط بالمشهد في كليته‏..‏ ولنفهم أكثر‏..‏ ولندرك هذه الصراعات في حجمها الحقيقي‏..‏ وساعتها نبلغ الاستنارة وتمتليء قلوبنا بالثقة والهدوء وبرد اليقين

والايمان في النهاية هو كل شيء‏..‏ وفي ضوء الايمان تعود الدنيا الي حجمها الضئيل الهزيل وفي ضوء الايمان ترخص التضحيات ويصبح الاستشهاد أمنية والموت في سبيل الله حياة وميلادا‏.,‏ والمسلم يتمني الموت في ساحة القتال واليهودي لا يتمني الموت أبدا

يقول ربنا: « وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ»‏ (البقرة : 95‏)‏

وهذه شهادة ربنا فيهم وهو العليم بنفوسهم

وبسبب هذا الجبن الغريزي الذي يملأ قلوبهم نراهم يتجنبون حروب المواجهة والقتال رجلا لرجل

يقول عنهم ربنا‏:‏ «لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًاۖ ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)» (الحشر : 13 – 16).

وهذه حربهم وجبنهم وتخاذلهم وكفرهم‏..‏

وهذه شهادة ربنا فيهم‏..‏ وكلها بشارات ونبوءات بسوء نهايتهم‏,‏ ونهايتهم الهزيمة الكاملة والانكسار المهين مهما استصرخوا أعوانهم الشياطين وحلفاءهم الأمريكان وأبناء جلدتهم الأوروبيين وأصنامهم الدولار والاسترليني والبورصة والسوق وأبالسة الأسلحة النووية‏..‏ فدمارهم قادم ومحتوم من الأزل وموتهم يسعي اليهم سعي الحية الرقطاء الي جحرها‏.‏

لماذا أثق كل هذه الثقة بالنهاية؟‏!!‏

لأنه لا يصح الا الصحيح‏..‏ ذلك قانون الأرض الذي أرساه الخالق الذي خلقها‏..‏ يقول ربنا‏:‏ أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض‏…‏

لا يبقي في الأرض ولا يدوم ولا يخلد الا الصالح والنافع أما حصاد الشر فيذهب مع أول ريح‏..‏

أبشروا‏..‏ إنهم ذاهبون‏..‏ ستعصف بهم أول ريح

واذا أردتم أن تعجلوا بالنصر‏..‏ فغيروا من أنفسكم‏..‏ كونوا أشداء علي الكفار رحماء بينكم‏..‏ فالله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم

لقد جعل الله مقاليد نصركم في أيديكم

ثقوا به وآمنوا بكلمته‏..‏ فلا كلمة تعلو علي كلمته

تزول السماوات والأرض ولا تزول كلمته‏..‏ وقد أوشكت أن تحل بهم كلمته

وليس أقوي من الإيمان بالله شيء‏.‏

اظهر المزيد

د. مصطفى محمود

(27 ديسمبر 1921 - 31 أكتوبر 2009) فيلسوف وطبيب وكاتب مصري. ألف 89 كتاباً منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة. كان مصطفى محمود مقدّماً لأكثر من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير. ولد بمدينة شبين الكوم في محافظة المنوفية، واسمه بالكامل (مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ) وله من الأبناء اثنين: أدهم وأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى