مساحة للاختلاف

الدكتور شوقي السيد يكتب: المتاجرة والابتزاز.. بحق التقاضى والإعلام!

لم يتخيل واضعو المواثيق الدولية والدساتير عندما أكدوا لنا أن التقاضى حق مصون ومكفول للجميع، وأن حق الدفاع حق أصيل، وأن لكل فرد حق مخاطبة السلطات العامة، وأن حرية الرأى وحق التعبير بكل وسائل التعبير والنشر مكفولان بنص الدستور، لم يتصور أحد أن يأتى اليوم ليكشف لنا الواقع عمن يتسترون خلف هذه الحقوق والحريات، بالمتاجرة والابتزاز والوقوع فى دائرة الفساد!!

وتؤكد لنا النصوص ومنذ عهد الرومان، احترام تلك الحقوق وحمايتها، والنص فى القوانين، على حظر الانحراف بها، أو إساءة استعمالها، بتوافر الصفة والمصلحة الشخصية والمباشرة فى حق التقاضى والشكاوى والبلاغات، وأن يكون حق الرأى والتعبير موضوعياً بعيدا عن الإساءة أو الطعن فى الأعراض، وهو ما حفلت به النصوص وأحكام القضاء وآراء الفقهاء منذ قديم، بالتحذير من الخروج على تلك القواعد والأحكام، حتى عند الإغراق فى الثقة وحسن النية، أو الادعاء بحماية المصلحة العامة للبلاد، وعادت إلينا النصوص من جديد لتؤكد اتباع تلك الشروط والأحكام.

ولأن النصوص دوماً تتناهى، والواقع يتطور من حولنا ولا يتناهى، فلقد فاجأنا ذلك التطور المذهل بأفعال وأحداث، أكدت لنا صوراً مفزعة من المتاجرة بحق التقاضى والاعلام، برفع الدعاوى وتقديم البلاغات، ثم الانتقال بها إلى ساحات المحاكم والإعلام، بقصد التهديد والابتزاز وادعاء البطولات، واطلاق شعارات كاذبة تحت لافتة محاربة الفساد وحماية المال العام أو الوحدة الوطنية، لأغراض فى نفس يعقوب، فنصبت فخاً وقع فيه الرأى العام.. وكانت ساحات المحاكم.. وقنوات الإعلام مسرحاً لها!!

حدث ذلك بالفعل خلال الأيام الماضية، اذ وقعت قضيتيْن شهيرتين، طرقت أذن الرأى العام.. وأعين المشاهدين، وقدمت لنا صورا جديدة من الفساد.. واحدة منها، دأبت على طرق أبواب المحاكم.. بدعاوى قضائية من أشخاص لا صفة لهم ولا مصلحة، تحت شعار محاربة الفساد.. والأخرى، الادعاء بصفر باطل لإثارة الفتنة الطائفية تحت شعار حماية الوحدة الوطنية، غرر هؤلاء بالبسطاء من الناس، فحملوا اللافتات، وأحتلوا مقاعد المتقاضين بساحات المحاكم، يهتفون بالعدل.. ويطلقون الأصوات والتهديدات، داخل أروقة المحاكم وخارجها، مهللين بقنوات الإعلام تحت راية الدفاع عن العدل ومحاربة الفساد.. ومنددين بالظلم الاجتماعى، وحماية الوحدة الوطنية، متاجرين بحق التقاضى.. والإعلام.

ولو أن الأمر يستهدف الغاية المشروعة لتلك الحقوق، لكان ذلك عملاً وطنياً رائعاً، لكن المفاجأة المذهلة، أن أولئك الذين يدعون البطولة قد كُشف عنهم القناع، بالاتجار والابتزاز، بالتهديد برفع الدعاوى أو المساومة على عدم رفعها.. واستخدام الإعلام وسيلة للمتاجرة والابتزاز والتشهير، لقبض الرشاوى بالملايين وإثارة الضجة والفضائح والتشهير حولها.. وبقصد تحقيق المكاسب.. وإشعال الرأى العام وادعاء البطولات سعياً للشهرة، وهو ما كشفت عنه بعد ذلك أمام الرأى العام التحقيقات والتسجيلات!!

فماذا أيها السادة عن تلك الأقنعة التى ضللت الطريق وغررت بالرأى العام لسنوات.. خاصة وقد انتشرت وصارت فرقاً وجماعات، بالمتاجرة والابتزاز وتحقيق الثروات والشهرة، ثم ماذا نفعل أيها السادة لتطهير ساحات المحاكم من دعاة حماية الفساد، وتعقب مرتكبيه.. وحماية الرأى العام والناس من الإثارة والتضليل، وحماية القضاء والإعلام من قبول الدعاوى بغير صفة أو مصلحة، وإتاحة الفرصة لنشر القصص والروايات على الرأى العام.. ومجاراة تلك الادعاءات دون تدقيق أو تمحيص.. أو حتى انتباه، بعد أن أطلت تلك الصور على واقعنا المعاصر بالمخالفة لكل القواعد والأحكام!!

لم يعد الحديث أيها السادة عن تلك الأفعال أمرا نظرياً.. وإنما أصبح واقعاً ملموساً، كشف عنه الواقع بحالات من التلبس لبعض الأشخاص والمراكز والجمعيات، الذين يتسترون وراء شعارات براقة، تتاجر بالظلم الاجتماعى الواقع، واضطراب الهياكل الاقتصادية فى البلاد، وتركيز الثروة فى أيدى الأقلية.. وحرمان الأغلبية من عوائد البلاد، بعد أن انكشف عنهم المستور، وبدت أمامنا الحقيقة لمن يحملون شعار مكافحة الفساد أو الدفاع عن الحق، بعد أن صار منهم الفاسد والمرتشى، ومن يتصدى للدفاع عن حقوق الإنسان.. وهو بشخصه من يغتال حقوق الإنسان، ابتزازاً ومتاجرة، وبما يقتضى الانتباه والحذر ودق ناقوس الخطر!!

ويتطلب ذلك منا العودة إلى القواعد والأصول، والتمسك بما سنه السلف الصالح منذ قديم، وما أكدت عليه القوانين الحديثه من جديد بتوافر الصفة والمصلحة لحق التقاضى.. وضرورة الالتزام بالموضوعية.. والبعد عن الإسفاف.. بحق التعبير والرأى، وهو أمر ميسور بمحاسبة أولئك الذين يتاجرون بالحقوق ويستعملونها ضد غايتها وحكمتها، ولا يصح أن نفرط فى حسن النية بسبب واقع اجتماعى يشهد بحالات من الظلم.. أو ببعض صور الفساد، فليس كل من يدعى محاربته يعد محارباً.. وليس كل من يدعى حمايته نعتبره حامياً لحماه، خاصة بعد أن انكشف المستور، وأكد لنا الواقع أن من بين هؤلاء من استغلوا الحقوق للمتاجرة والابتزاز بحق التقاضى والإعلام، ضللوا العدالة والرأى العام.. ويسعون فى الأرض فساداً لأن القضاء كما هو مسئول عن معاقبة المفسدين.. فهو مسئول كذلك عن حماية حق التقاضى، وكما أن الإعلام مسئول عن كفالة حرية التعبير والرأى.. فإنه مسئول كذلك عن حمايته من الضلال والبهتان. ولسوف يعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، بعد أن ظهر الفساد فى البر.. بما فعلت ايدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا، علّهم يرجعون، وبعد أن ظهر الحق وهو أحق أن يتبع نقول سبحان الله.. والحمدلله.. ولا اله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!!

وكل عام وحضراتكم بخير ومصر فى سلام وأمان.

اظهر المزيد

د. شوقي السيد

(1937 – 10 ديسمبر 2021) .. فقيه دستوري، وعضو سابق بالبرلمان المصري، وقامة قانونية كبيرة، ولد بمدينة «السنبلاوين» في محافظة الدقهلية. تلقى تعليمًا أزهريًا وأصبح من رجالات التعليم، وكان من أصحاب العقليات المتفتحة. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1959. وبعد تخرجه من الجامعة تقدم إلى النيابة العامة، وقبل بها، وبعدها انتقل للعمل فى مجلس الدولة حتى تقدم باستقالته من العمل بالقضاء للعمل العام. عمل مستشارا بمجلس الدولة، وعضو المجلس الأعلى للصحافة الأسبق. كان عضوًا في لجنة تقنين الشريعة والقانون بمجلس الشعب، في الفترة من 1979 حتى 1984. وعضوًا في مجلس الشورى فى الفترة من 1995 حتى عام 2011، ووكيل للجنة حقوق الإنسان بالمجلس "2008 - 2011". تقلد العديد من المناصب، وعمل مستشارًا قانونيًا للعديد من الوزارات والمؤسسات العلمية والصحفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى