مساحة للاختلاف

جمال الغيطاني يكتب : الكل فى واحد

بدأت المرحلة الدراسية الابتدائية عام واحد وخمسين بفضل قرار الدكتور طه حسين جعل التعليم كالماء والهواء، ونفذ بالفعل ما كتبه عام ثمانية وثلاثين فى مؤلفه المهم «مستقبل الثقافة المصرية»، والذى أراه صالحاً لواقعنا الحالى، ما زال، بعد ثورة يوليو مد جمال عبدالناصر مجانية التعليم إلى أعلى المستويات.

ما يعنينى نظام التعليم الراقى فى المرحلة الابتدائية؛ كان يتضمن وجبة غذاء كاملة، طبيخ فيه مرق وخضار ولحم، يقدمه سفرجية مثل الذين نراهم فى الأفلام، كانت الموائد تنصب فى فناء مدرسة عبدالرحمن كتخدا الابتدائية، حيث يعبق فراغها الداخلى برائحة التقلية والمرق، طعام كان معظمنا لا يعرفه إلا نادراً فى البيوت التى جاءوا منها.

تضمنت مناهج التعليم أيضاً الرحلة والتربية الفنية، الرحلة للوقوف على العالم الأوسع، والفن لتنمية المدارك، حصة الرسم أساسية وفيها عرفنا فن النحت من الصلصال والحجر والألباستر، النحت محرم الآن فى المدارس. أما حصة المطالعة الحرة فكانت نعمة بحق، عرفت من أرفف المدرسة المازنى، يحيى حقى، محمد فريد أبوحديد، وريشة سندباد، الذى كان يرسم مجلة سندباد من الغلاف إلى الغلاف، كان الفنان العظيم بيكار أحد من وضعوا أسس رؤيتى البصرية منذ أن بدأ تفتح وعيى على الحرف والخط واللون. كانت هذه المحاور من غرس طه حسين الذى كان يرى أن الطفل يجب أن ينمو عبر عملية متكاملة، يتم خلالها الاهتمام بالبرنامج التعليمى متعدد الأغراض، وتوفير مدرسة فسيحة يمارس فيها هواياته وينمو جسدياً ونفسياً. كان أهم عناصر التربية الرحلة، وفى المرحلة الابتدائية عرفنا القناطر الخيرية، وحلوان حيث الحديقة اليابانية التى كانت جميلة وتمثال بوذا وحوله الرهبان المصطفون حول بركة التأملات، لم أعرف الهدف والمعنى المقصود إلا فى عمر متقدم عندما قرأت عن ديانات آسياً عامة، والبوذية خاصة، والكونفشيوسية فى الصين والزن فى اليابان.

من المناطق التى كانت هدفاً للرحلات المدرسية هضبة الأهرام بالجيزة، ومنطقة سقارة، ورغم أن الزيارة كانت فى المرحلة الابتدائية هدفها اللهو وممارسة الألعاب فى الفضاءات المتاحة فإن التأثير غير المباشر كان أقوى، حتى الآن ما زلت أذكر سقف تلك المقبرة بلونه الأسود الحالك المحاكى لظلام الليل، والنجوم ذات اللون الذهبى، يمثل السقف فى ذاكرتى حتى الآن وكأننى أراه أمامى الآن، غير أن اسم المقبرة وموضعها تبددا من الذاكرة تماماً، ورغم زياراتى المتكررة، والسماح لى بدخول مقابر لا تفتح إلا بإذن خاص، غير أننى لم أصل إلى هذا السقف قط، منذ أن رأيته وأنا أسعى لرؤية ما وصل إلينا فى أرض مصر، وما يستقر فى متاحفنا، وما نقل نهبا إلى البلاد الأخرى، وعلى امتداد ستين عاماً نما اهتمامى وترسخ يقينى أنه ما من حضارة ظلمت ونهبت معنوياً من أصحابها مثل الحضارة المصرية القديمة، مع يقينى أنها مستمرة فى الأعماق، تطفو بقوة إلى السطح، وتتجلى بمكنونها العميق فى لحظات نادرة عند اندلاع الأحداث الكبرى، حيث يتحقق المبدأ المصرى القديم الذى يعكس رؤية خاصة فريدة للكون، إنه «الكل فى واحد»، رأيت هذا المبدأ متجسداً عملياً ليلة التاسع من يونيو عند ظهور جمال عبدالناصر مهزوماً فى التليفزيون، منكسراً، معترفاً بالكارثة، إلا أن العنصر القديم انتفض على الفور وتوحد المصريون فى الشارع من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، وهكذا أرسى الكل مبدأ المقاومة ورفض الهزيمة رغم حجمها المهول، بعد أن أصبحوا واحداً دون اتفاق مسبق، أو عمل سياسى، ما من جهد أياً كان نوعه يمكنه تحقيق تلك النفرة، رأيتها بعد ذلك فى جنازة الفريق عبدالمنعم رياض، وشهدتها فى حرب أكتوبر، فجر الأحد السابع منه عندما وصلت إلى الجبهة مع أول مجموعة صحفيين وعايشتها فى رحيل عبدالناصر الأسطورى، عندما توحد كل مصر فى واحد مودعاً الزعيم الذى انحاز إلى الأغلبية، ورأيت جذوتها فى ثورة يناير خلال الأيام من الخامس والعشرين إلى الحادى عشر من فبراير فقط لا غير، هذه الروح تتوهج وتخبو، تروح وتجىء، تغيب وتشرق، وباستمرار يحضر ذلك السقف القديم فى سقارة بلونه الأسود الجالب لعتمة الكون ونجومه المضيئة فى عمق القبر الدفين.

اظهر المزيد

جمال الغيطاني

(9 مايو 1945 - 18 أكتوبر 2015) .. روائي وصحفي مصري ورئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب المصرية. وصف بأنه «صاحب مشروع روائي فريد استلهم فيه التراث المصري ليخلق عالمًا روائيًا عجيبًا يعد اليوم من أكثر التجارب الروائية نضجًا»، وقد تأثر كثيرا بصديقه وأستاذه الكاتب نجيب محفوظ، ولعب ذلك دورا أساسيًا لبلوغه هذه المرحلة مع اطلاعه الموسوعي على الأدب القديم. وساهم جمال أحمد الغيطاني في إحياء الكثير من النصوص العربية المنسية وإعادة اكتشاف الأدب العربي القديم بنظرة معاصرة جادة. كما وصف الغيطاني بأنه «قامة أدبية كبيرة وأحد رواد الرواية والسرد في مصر والعالم العربي»، و«أحد أبرز الأصوات الروائية العربية في نصف القرن الأخير».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى