مساحة للاختلاف

صلاح عيسى يكتب: هستيريا كرة القدم

فى بداية سبعينيات القرن الماضى، كنت محرراً بقسم الأبحاث بجريدة «الجمهورية».. وكنا نحشر فى غرفة ضيقة، كانت – كذلك – محلاً مختاراً لكبار كتاب «الجمهورية» كلما جاء أحدهم ليسلم مقاله، أويتسلم راتبه، وكان من بينهم أساتذتنا الراحلون «محمد عودة» و«كامل زهيرى» و«سامى داود» و«أحمد عباس صالح» و«الشيخ محمد سعاد جلال».

وفى أحيان ليست كثيرة، كنا ننجح فى إقناع رئيس التحرير «مصطفى بهجت بدوى» بأن يقرضنا صفحة أونصف صفحة، من الصفحات الكثيرة المخصصة لكرة القدم، لننشر بعض ما تراكم لدينا من موضوعات صحفية أعدها قسم الأبحاث عن الشؤون الداخلية أوالخارجية المهمة التى لا تحتمل التأجيل..

فإذا فعل جاءنا الرد خالصاً فى اليوم التإلى: يقف الأستاذ ناصف سليم – رئيس القسم الرياضى – على باب القسم فى الممر الفاصل بين باب غرفتنا المفتوح وباب غرفته المواجه له، وعلى طريقة «إياك أعنى والكلام لك يا جارة» يعلن بأعلى صوته، أن على الجميع أن يتنبهوا إلى أن صفحات الرياضة، هى التى تجلب القراء،

وبالتإلى الإعلانات لـ«الجمهورية»، وليس الكلام الفارغ الذى ينشر فى بقية صفحات الجريدة، وأن يتذكروا أنهم يقبضون رواتبهم من عرق المحررين الرياضيين، وأن يكفوا عن التحريض على العدوان على صفحات الرياضة لحساب ما يكتبونه من طوب وزلط ودبش، لأن ذلك سوف ينتهى بأن نسرح جميعاً أمام باب السيدة زينب نتسول القوت ونقول حسنة لله يا أسيادى!.

ولأن شر البلية ما يضحك، فقد كنا نضحك، لأن ما يقوله «ناصف سليم»، بصرف النظر عن المبالغة، لم يكن بعيداً عن الحقيقة، وكانت المظاهرات الوحيدة التى تطوف بمبنى جريدة «الجمهورية»، هى مظاهرات مشجعى كرة القدم، التى تأتى لتهتف بحياة أوسقوط أحد النقاد الرياضيين، بسبب مقال كتبه عن أحد الناديين الكبيرين فى أعقاب المباريات الفاصلة بينهما.. ومع ذلك، فقد واصلنا كتابة الطوب والزلط والدبش على أمل أن يأتى اليوم الذى تعتدل فيه الموازين المختلة، بين ما هوأساسى وما هوفرعى، وما هوجد وما هولعب، وما يعنى الناس حقاً وما يُدفعون بالإلحاح والدعاية إلى الاهتمام به، بشكل يتجاوز ذلك إلى لون من ألوان الهستيريا الجماعية.

وحتى أوائل خمسينيات القرن الماضى، كان الاهتمام بكرة القدم محدوداً، ولم تكن الصحف المصرية – المشغولة آنذاك بالقضايا العامة وبالصراعات بين الأحزاب السياسية – تخصص لها أكثر من عمود أوعمودين فى الصفحة قبل الأخيرة، إلى جوار إعلانات الوفيات، لكن الأمور أخذت تتغير تدريجيا بعد ثورة يوليو، كأحد أعراض الفراغ السياسى الذى تولد عن إلغاء الأحزاب السياسية، والتضييق على كل صور التنوع فى الرأى أوالانشغال بالشأن العام مما أدى إلى بروز أشكال أخرى من التعبير عن التنوع الطبيعى فى الآراء والمصالح والذى لا يستطيع أحد إلغاءه أومصادرته، لأنه إحدى سنن الاجتماع البشرى، فبرز الانتماء للطائفة الدينية أوالمذهبية،

ثم الانتماء إلى نوادى الكرة، كبديل عن الانتماء الأوسع للجماعة الوطنية أوالحزب السياسى.. وبدأت الصحف التى فقدت جاذبيتها للقراء بعد إلغاء التعددية الحزبية تلجأ لعوامل جذب أخرى، كان من بينها التوسع فى نشر أخبار الجرائم.. ثم فى نشر أخبار كرة القدم.

لكن هذا التوجه التلقائى للتعبير عن التنوع الطبيعى بالانتماء إلى أحد فرق كرة القدم، بدلا من الانتماء إلى حزب من الأحزاب، سرعان ما دخلته الصنعة والتخطيط المسبق، فشنت أجهزة الإعلام، خاصة التليفزيون – الذى بدأ بثه عام 1960 – حملات دعاية مكثفة لكرة القدم، وصنعت من لاعبيها نجوماً، وساهمت فى تنشئة أجيال متتالية من المصريين، تعتقد بأن أهم مواصفات المواطن المصرى الصالح هوأن يكون مشجعاً لأحد فرق «كرة القدم»..

وأصبحت «كرة القدم» – منذ بداية الستينيات – إحدى مؤسسات الحكم، تخضع لرعاية المشير «عبدالحكيم عامر» الرجل الثانى – أوالأول مكرر – فى السلطة آنذاك، فتولى رئاسة اتحاد الكرة، ومنح بعض لاعبيها رتباً عسكرية شرفية فى القوات المسلحة!

أما وأنا أكتب هذا المقال لينشر صبيحة اليوم الذى تجرى فى مسائه مباراة كرة القدم بين فريقى مصر والجزائر فى تصفيات كأس العالم، فقد حاصرنى الاهتمام الإعلامى المبالغ فيه بالمباراة، على نحوبدا معه وكأنه لا شىء يجرى فى العالم – خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة – يستحق الاهتمام به أوالكتابة عنه، غير هذه المباراة، وأننى لوكتبت عن شىء غيرها فلن أجد قارئا يهتم بما أكتب،

والغريب أن الذين أثاروا هذه الهستيريا الجماعية هم أنفسهم الذين يملأون الدنيا ضجيجا بإشاعة أن الأحزاب السياسية المدنية لا وجود لها فى الشارع، وأن الناس قد انصرفت عنها، وأنها عاجزة عن أن تصل للجماهير، من دون أن يسأل أحدهم نفسه عن السبب الذى يدفع ملايين من الناس، يعيشون فى الظروف التعيسة التى يعيش فى ظلها المصريون،

إلى أن ينصرفوا عن الاهتمام بالأحزاب السياسية، التى تجتهد فى البحث عن حلول لمشاكلهم العامة، سواء اتفقنا أواختلفنا معها، ويهتمون بهذا الشكل الهستيرى بماتش كورة، مهما كانت نتيجته، فلن تحل لهم مشكلة.. أوتحقق لهم تقدماً!

وهوسبب لا يتطلب البحث عنه أى مجهود.. إذ يكفى أن ينظر كل منهم إلى المرآة، ليتعرف على المسؤول عن هذه المسخرة التاريخية!

اظهر المزيد

صلاح عيسى

(14 أكتوبر 1939 - 25 ديسمبر 2017) .. صحفي ومؤرخ مصري يساري، ولد في قرية "بشلا" مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية. ونشأ في بيئة يمكن وصفها بأنها «فسيفسائية الفكر»: فكان والده وفديا وانتمى عمه للحزب المنافس الأحرار الدستوريين بينما انضم عمه الآخر إلى جماعة الإخوان، أما أمه فكانت أمية لا تجيد الكتابة ولا القراءة لكنها حرصت على اقتناء الكتب مع ذلك، وبعدما شبَّ صلاح عيسى كان يقرأ عليها كُتب «سير الأنبياء». وفي عام 1948م غادر قريته إلى القاهرة. وحصل على بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية عام 1961 ورأس لمدة خمس سنوات عدداً من الوحدات الاجتماعية بالريف المصري. بدأ مسيرته الأدبية كاتبا للقصة القصيرة ثم اتجه عام 1962 للكتابة في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي. تفرغ للعمل بالصحافة منذ عام 1972 في جريدة الجمهورية. أسس وشارك في تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات منها الكتاب والثقافة الوطنية والأهالي واليسار والصحفيون وترأس في وقت لاحق تحرير جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، والتي حولها وزير الثقافة حينها فاروق حسني من مجلة دورية إلى صحيفة ثقافية أسبوعية. كما كان صلاح عيسى وكيلا لنقابة الصحفيين وعضوا بمجلس إدارتها في التسعينيات من القرن العشرين. وشغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى